recent
جديد المشاركات

الإكراه كعيب من عيوب الرضا في التعاقد

للايضاح عن موضوع الاكراه كعيب من عيوب الإرادة ننقل لكم ما ورد في كتاب الوسيط للدكتور والفقيه القانوني عبدالرزاق السنهوري وبالتفصيل الذي أكد بان الرهبة هي التي تفسد الرضاء والإكراه ضغط تتأثر به إرادة الشخص فيندفع إلى التعاقد. 
والذي يفسد الرضاء ليست هي الوسائل المادية التي تستعمل في الإكراه ، بل هي الرهبة التي تقع في نفس المتعاقد . 
كما أن الذي يفسد الرضاء في التدليس ليست هي الطرق الإحتيالية، بل ما تحدثه هذه الطرق في نفس المتعاقد من التضليل والوهم. 

الإكراه الذي يفسد الرضاء والإكراه الذي يعدمه 

والإكراه وأن كان يفسد الرضاء على النحو المتقدم ، إلا أنه لا يعدمه . فالمكره إرادته موجودة ، ولو انتزعت منه هذه الإرادة رهبة ، لأنه خير بين أن يريد أو أن يقع به المكروه الذي هدد به ، فاختار اهون الضررين وأراد ، إلا أن الإرادة التي صدرت منه هي إرادة فاسدة ، لأنها لم تكن حرة مختارة . 
وإنما يعدم الإكراه الرضاء إذا انتزع الرضاء عنوة لا رهبة ، كما إذا امسك المكره بيد المكره وأجرى القلم في يده بالتوقيع على التزام . ففي هذه الحالة يكون العقد باطلا لانعدام الرضاء . 
الإكراه هو أيضاً عمل غير مشروع : وينبغي أن تنظر إلى الإكراه – كما نظرنا إلى التدليس – من ناحيتين : الناحية التي يكون الإكراه فيها عيباً من عيوب الإرادة فيبطل العقد ، والناحية التي يكون الإكراه فيها عملا غير مشروع فتترتب عليه المسئولية عن التعويض . وسنرى فيما يلي هاتين الناحيتين في الإكراه . 
190 – النصوص القانونية : وكان القانون القديم يشتمل على نص واحد في الإكراه هو نص المادتين 135 / 195 ، وهو يقضى بأنه " لا يكون الإكراه موجباً لبطلان المشارطة إلا إذا كان شديداً ، بحيث يحصل منه تأثير لذوى التمييز مع مراعاة سن العاقد وحالته والذكورة والأنوثة " . وهذا النص يفضل نصوص القانون الفرنسي التي نقل عنها ، إذا تجنب الخوض في كثير من التفصيلات التي عرضت لها هذه النصوص (   ) ، واقتصر على وضع معيار مرن . إلا أنه خلط ما بين معيار موضوعي هو معيار ذي التمييز ( personne raisonnable ) ومعيار ذاتي هو معيار العاقد بالذات . وقد نقل هذا الخلط عن القانون الفرنسي (   ) . 
أما القانون الجديد فقد تجنبت نصوصه هذا الخلط ، فاقتصرت على المعيار الذاتي وهو المعيار الصحيح ، وعرضت لعناصر الإكراه في نصين ، هما لمادتان 127 و 128 . 
وتنص المادة 127 على ما يأتي : 
 " 1 - يجوز إبطال العقد للإكراه إذا تعاقد شخص تحت سلطان رهبة بعثها المتعاقد الآخر في نفسه دون حق وكانت قائمة على أساس .
 2 - وتكون الرهبة قائمة على أساس إذا كانت ظروف الحال تصور للطرف الذي يدعها أن خطرا جسيما محدقا يهدده هو أو غيره في النفس أو الجسم أو الشرف أو المال .
 3 - ويراعي في تقدير الإكراه جنس من وقع عليه الإكراه وسنه وحالته الاجتماعية والصحية وكل ظرف أخر من شأنه أن يؤثر في جسامة الإكراه (   ) " .
وتنص المادة 128 على ما يأتي : 
 " إذا صدر الإكراه من غير المتعاقدين ، فليس للمتعاقد المكره أن يطلب إبطال العقد ، ما لم يثبت أن المتعاقد الآخر كان يعلم أو كان من المفروض حتما أن يعلم بهذا الإكراه (   ) " .
191 – عنصران للإكراه : ويستخلص من هذه النصوص أن عناصر الإكراه ، كعناصر التدليس ، اثنان : 1 – استعمال وسائل للإكراه تهدد بخطر جسيم محدق ، وهذا هو العنصر الموضوعي . 2 – رهبة في النفس يبعثها الإكراه فتحمل على التعاقد ، وهذا هو العنصر النفسي . 
وهذان العنصران كافيان ، ولا يهم بعد ذلك ما إذا كان الإكراه صادراً من أحد المتعاقدين ، أو من الغير ، أو من ظروف خارجية تهيأت مصادفة . 
ونتناول بالبيان كلا من العنصري الموضوعي والنفسي ، وننتقل بعد ذلك إلى الجهة التي صدر منها الإكراه هل هي أحد المتعاقدين . أو الغير أو مجرد المصادفة (   ) . 
1 – استعمال وسائل للإكراه تهدد بخطر جسيم محدق
192 – تحليل هذا العنصر : لا بد من استعمال وسائل للإكراه تقع على الحس أو على النفس . فتهدد المتعاقد المكره ، أو شخصاً عزيزاً عنده ، بخطر جسيم محدق بالنفس أو بالمال . ووسائل الإكراه تكون في العادة غير مشروعة يقصد بها الوصول إلى غرض غير مشروع . وقد تستعمل وسائل مشروعة للوصول إلى غرض غير مشروع فيتحقق الإكراه : من ذلك أن يستغل صاحب الحق المطالبة بحقه لابتزاز فائدة غير مشروعة من المدين ، ومن ذلك أيضاً أن يستغل صاحب الشوكة والنفوذ الأدبي شوكته ونفوذه ليحقق غرضاً غير مشروع . 
فنتكلم إذن فيما يأتي : ( 1 ) الإكراه الحسي والإكراه النفسي ( 2 ) الخطر الجسيم المحدق بالنفس أو بالمال إذا هدد المتعاقد نفسه ( 3 ) هذا لخطر إذا هدد غير المتعاقد ( 4 ) المطالبة بحق كوسيلة للإكراه ( 5 ) الشوكة والنفوذ الأدبي . 

الإكراه الحسي والإكراه النفسي : 

وسائل الإكراه أما أن تقع على الجسم ، كالضرب المبرح والإيذاء بأنواعه المختلفة ، وهذا ما يسمى بالإكراه الحسي ( violence physique ) لنه يقع على الحس ، وهو نادر لاسيما في الأوساط المتحضرة . وإما أن تكون الوسيلة تهديداً بإلحاق الأذى دون إيقاعه بالفعل أو إحداثاً لألم نفسي ، وهذا ما يسمى الإكراه النفسي ( violence morale ) لأنه يوقع في النفس رهبة أو ألماً ، وهذا هو الإكراه الأكثر وقوعاً في الحياة العملية . وليس هناك فرق بين الإكراه الحسي والإكراه النفسي ، فكل وسيلة من وسائل الإكراه ، سواء وقعت على الجسم أو على النفس ، تفسد الرضاء وتجعل العقد قابلا للإبطال . 

خطر جسيم محدق بالنفس أو بالمال يهدد المتعاقد نفسه

ولكن لما كان الإكراه النفسي هو الأكثر وقوعاً كما قدمنا ، فإن كلامنا ينصرف في الغالب إليه . وهو الذي يوقع في نفس المتعاقد المكره أن خطراً جسيما محدقاً يهدده هو أو غيره في النفس أو الجسم أو الشرف أو المال (   ) " . 
فالخطر يجب أن يكون جسيما ، والعبرة في جسامة الخطر بحالة المكره النفسية . فلو كانت وسائل الإكراه التي استعملت غير جدية ، ولكنها مع ذلك أوقعت الرهبة في نفس المكره وصورت له أن خطراً جسيماً يهدده ، فإن هذا يكفي لإفساد الرضاء . وذلك كما إذا هدد شخص آخر بعمل من أعمال الشعوذة ، كأن يلحق الأذى بمواشيه من طريق السحر " والتعزيم " ، أو هدده بأن له قدرة على " الربط والحل " ، أو نحو ذلك مما يقع كثيراً في الأوساط القروية الساذجة . 
والخطر يجب أن يكون محدقاً ( imminent ) أي وشيك الوقوع . فلو كان التهديد بخطر يتراخى وقوعه إلى أجل يتمكن معه المتعاقد من اتخاذ الحيطة لنفسه ، فإن هذا التهديد لبس من شأنه عادة أن يوقع في النفس الرهبة التي تفسد الرضاء . على أن الأمر منوط بحالة المتعاقد النفسية ، فقد ننبعث في نفسه رهبة من التهديد بخطر بعيد الأجل ، فيكفي هذا لإفساد الرضاء . فالعبرة إذن بوقوع الرهبة حالا في نفس المتعاقد ، لا بأن الخطر حال أو محدق (   ) . 
والخطر إما أن يصيب المتعاقد في جسمه أو نفسه ، كخطر يقع على حياته أو على سلامة أعضائه أو الم نفسي ينزل به . وإما أن يقع على شرفه واعتباره بين الناس أو على الثقة فيه لا سيما إذا كانت مهنته تقتضي التوفر على هذه الثقة كما في التجارة . وإما أن يقع على ماله ، كما إذا هدد في مزروعاته بالإتلاف أو في داره بالحريق . فالخطر الذي يقع على أي شيء يحرص المتعاقد على سلامته يكفي لتحقق الإكراه . 

الخطر يهدد الغير : 

وليس من الضروري أن يهدد الخطر المتعاقد المكره نفسه ، فقد يهدد شخصاً غيره عزيزاً عليه فيعتبر الإكراه متحققاً بذلك . وهذا ما تنص عليه صراحة الفقرة الثانية من المادة 127 التي تقدم ذكرها ، فهي تجيز أن يهدد الخطر الجسيم المحدق المتعاقد المكره نفسه " أو غيره " . وقد كان المشروع التمهيدي للقانون الجديد يشترط أن يكون الغير هو أحد أقارب المتعاقد (   ) ، ولكن رؤى بحق في المشروع النهائي العدول عن هذا الشرط . فليس صحيحاً أن الأقارب هم كل الناس الذين ينزلهم الشخص منزلة نفسه ، فهناك الزوج والزوجة ، والخطيب والخطيبة ، بل والأصدقاء ، قد يكون فيهم من يعزهم الشخص إعزازاً يجعله يتأثر مما يتعرضون له من الخطر إلى حد أن تفسد إرادته تحت تأثير الخوف الذي يقع في نفسه من جراء ذلك . وليس صحيحاً كذلك أن كل الأقارب ينزلهم الشخص منزلة نفسه ، ويتأثر من الخطر الذي يهددهم تأثراً يفسد رضاه . والأولى أن يترك تقدير ذلك للظروف ، فلا يذكر فريق معين من الناس على زعم إنهم هم الاعزاء دون غيرهم . وإنما ينظر القاضي في كل حالة إلى ظروفها الخاصة ، ويقدر علاقة المتعاقد بمن يهدده الخطر ، هل هي علاقة وصلت إلى الحد الذي يجعل المتعاقد يتأثر من هذا الخطر بحيث تفسد إرادته فيبطل العقد ، لا فرق في ذلك بين قريب وزوج وخطيب وصديق (   ) . 

المطالبة بحق كوسيلة للإكراه : 

والإكراه يتحقق عادة باستعمال وسائل غير مشروعة للوصول إلى غرض غير مشروع . فتهدد شخص بقتله أو بإحراق منزله إذا لم يمض التزاماً ، أو بقتل ولد له اختطفه المكره إذا لم يمض تعهداً بدفع الفدية ، أو بالتشهير به إذا لم يتعهد بدفع قدر من المال ، كل هذه الوسائل غير مشروعة للوصول إلى غرض غير مشروع . 
أما إذا كانت الوسائل مشروعة في ذاتها ويراد بها الوصول إلى غرض مشروع ، بأن يضغط شخص على إرادة شخص آخر من طريق المطالبة يحق له عليه ، ولا يقصد بهذا الضغط إلا الوصول إلى حقه ، فلا يبطل العقد للإكراه ، كالدائن يهدد المدين بالتنفيذ على ما له إذا لم يعطه تأميناً على عين بالذات ، فيعطيه المدين رهناً ، فلا يبطل عقد الرهن في هذه الحالة ، لأن الوسائل التي استعملت للضغط على إرادة المدين وسائل مشروعة ولا يقصد بها الدائن إلا الوصول إلى حقه وهو غرض مشروع . وكذلك إذا هدد شخص آخر بتقديمه بلاغاً إلى النيابة العامة يتهمه فيه بالتبديد إذا لم يكتب له سنداً بما أودعه عنده من مال ، فهذا الإقرار الصادر منه لا يبطل للإكراه ، لأن الوسائل التي استعملت مشروعة ويراد بها الوصول إلى غرض مشروع هو إثبات حق موجود . وكذلك إذا هددت الزوجة زوجها بأن تحبسه في نفقتها أن لم يستند ويعطها ما تنفقه ، فلا يبطل عقد القرض للإكراه . هذا ونص القانون الجديد صريح في أن الإكراه لا يتحقق إلا إذا كانت الرهبة قد بعثت " دون حق " في نفس المتعاقد المكره (   ) . 
على أنه إذا استعملت الوسائل المشروعة للوصول إلى غرض غير مشروع ، واستغل الدائن قيام حقه في المطالبة فضغط على إرادة مدينه ، لا للوصول إلى حقه فحسب ، بل ليبتز من المدين ما يزيد على حقه ، فإن الإكراه يتحقق ويبطل العقد . فمن فاجأ شخصاً متلبساً بجريمة ، فاستغل هذا الظرف واضطر إلى كتابة سند بمبلغ كبير من المال لاحق له فيه ، جاز إبطال العقد للإكراه . أما إذا استكتبه سنداً بمبلغ هو مقدار ما أصابه من الضرر بسبب ارتكاب الجريمة ، فإن الغرض هنا مشروع والعقد صحيح . وإذا هدد دائن مدينه بأن يعلن إفلاسه وابتغى من وراء ذلك الحصول على مال أكثر من حقه ، كان هذا إكراهاً ، أما إذا حصل على حقه فإن الغرض يكون مشروعاً ولا يكون هناك إكراه (   ) . 

الشوكة والنفوذ الأدبي كوسيلة للاكراه : 

ومجرد الشوكة والنفوذ الأدبي الذي قد يكون لشخص على آخر ، سواء ارتبطا بصلة النسب كما بين الأب وولده ، أو اتصلا برابطة الزوجية أو المصاهرة ، أو لم يتصلا بشيء من ذلك كما بين الوصي والقاصر إذا لم يكونا من ذوي القربى وبين الأستاذ والطالب وبين ذى النفوذ الديني والمتدين وبين الريس والمرؤوس ، لا يكفي عادة ليكون وسيلة للإكراه ، ذلك أن استعمال النفوذ الأدبي والشوكة أمر مشروع ما دام القصد من ذلك الوصول إلى غرض مشروع (   ) . 
أما إذا قصد الوصول إلى غرض غير مشروع ، فلا يوجد في هذه الحالة ما يمنع من الطعن في العقد بالإكراه (   ) . ولا شك في أن موقف الزوجة من زوجها والزوج ذو شوكة على زوجته ، وموقف الولد من أبيه وهو يخفض له جناح الذل من الرحمة ، وموقف المتدين من رئيس ديني والدين ذو اثر عميق في النفس ، وموقف المرؤوس من رئيسه وفي يد هذا إبقاؤه في العمل أو فصله ، كل هذه مواقف قد تتأثر فيها إرادة الشخص إلى حد كبير ، وليس من الصواب أن يقال إن الشخص يتعاقد مختاراً فيها . فإذا أريد بالعقد وصول إلى غرض غير مشروع ، كعقد التزام باهظ يثقل كاهل الملتزم . أو ما كان يرضاه لولا موقفه ممن يتعاقد معه ، فإن العقد يجوز إبطاله للإكراه (   ) . 
ب – رهبة تحمل على التعاقد 
198 – وجوب الأخذ بالمعيار الذاتي : قدمنا أن المادة 127 من القانون الجديد تقضي بأنه يجوز إبطال العقد للإكراه إذا تعاقد شخص تحت سلطان رهبة بعثها المتعاقد الآخر في نفسه دون حق ز . . ويراعى في تقدير الإكراه جنس من وقع عليه هذا الإكراه وسنه وحالته الاجتماعية والصحية وكل ظرف آخر من شأنها أن يؤثر في جسامة الإكراه . وهذا النص قاطع في أن القانون الجديد يأخذ في الإكراه بمعيار ذاتي محض . وقد كان القانون القديم ( م 135 / 195 ) يخلط بين المعيار الذاتي والمعيار الموضوعي مقلداً في ذلك القانون الفرنسي كما سبق القول (   ) . 
ولا شك في أن القانون الجديد أحسن صنعاً بالاقتصار على المعيار الذاتي وعدم الخلط بينه وبين المعيار الموضوعي ، فإن الإكراه ، كالغلط وكسائر عيوب الرضاء ، ظاهرة من الظواهر النفسية لا يجوز الأخذ فيها بغير المعيار الذاتي (   ) . وهذا ما جرى عليه القضاء والفقه في مصر حتى في ظل القانون القديم (   ) . وهذا هو أيضاً ما أخذت به الشريعة الإسلامية (   ) والقوانين الأجنبية الحديثة (   ) . 
فيجب إذن أن تكون الرهبة التي بعثها إلى نفس المتعاقد المكره التهديد بخطر جسيم محدق في النفس أو الجسم أو الشرف أو المال رهبة قد ضغطت على إرادته بحيث أصبح مسلوب الحرية لا اختيار له فيما أراد ، وأن هذه الرهبة هي التي حملته على التعاقد ودفعته إليه دفعاً . فالرهبة إذن تكون قد افسدت إرادته ، وهذه هي المسألة الجوهرية التي يجب الوقوف عندها ، واليها ترد سائر المسائل في الإكراه . وما تقدم ذكره من وجوب التهديد بخطر في النفس أو الجسم الو الشرف أو المال ، ومن أن الخطر يجب أن يكون جسيماً محدقاً ، إنما هو المظهر المادي للرهبة التي انبعثت في نفس المتعاقد المكره فحملته على التعاقد . وليس الخطر الجسيم المحدق مقصوداً لذاته ، بل للنتيجة التي يؤدي إليها من وقوع الرهبة في النفس ، وأن تكون هذه الرهبة هي التي دفعت إلى التعاقد ، مراعى في ذلك الحالة الشخصية للمتعاقد المكره . وهذا هو المعنى المقصود من الأخذ بالمعيار الذاتي (   ) . 
199 – تطبيق المعيار الذاتي : فالواجب إذن النظر إلى حالة المتعاقد الشخصية ، فنتعرف إلى أي حد هو يتأثر بالرهبة والخوف ، وندخل في اعتبارنا كل العوامل التي يكون من شأنها تكييف نفسيته ، من جنس وسن وحالة اجتماعية وحالة صحية وكل ظرف آخر من شأنه أن يؤثر في جسامة الإكراه كما تقول الفقرة الثالثة من المادة 127 . 
فالأنثى غير الذكر . والصبي الصغير غير الشاب القوي ، وهذا غير الهرم البالي . والقروى الساذج غير المدني المتحضر . والعصبي غير الهادئ المزاج . والضعيف غير القوى . والمريض غير المعافي . والجاهل غير المتعلم . والغبي غير الذكي . وهكذا . ويجب الاضداد أيضاً إلى جانب الحالة الشخصية بالظروف والملابسات ، فالخطر قد يحدث رهبة في نفس المتعاقد وهو في جهة قاصية بعيدة عن الناس ولا يحدثه وهو في مدينة آهلة بالسكان وعلى مقربة من رجال الأمن . وقد يخشى منفرداً ما لا يخشاه وهو في جماعة من الناس . وقد يكون الخوف اشد وقعاً في نفسه ليلا منه نهاراً . فالمكان والزمان وغيرهما من الظروف والملابسات تؤثر في تكييف جسامة الخطر في نفس المتعاقد (   ) . 
ومعرفة ما إذا كانت الرهبة هي التي دفعت فعلا إلى التعاقد مسألة واقع لا رقابة لمحكمة النقض عليها (   ) . وينظر في تقديرها إلى العوامل التي سبق بيانها . ووجوب الاعتداد بهذه العوامل من مسائل القانون التي تعقب عليها محكمة النقض (   ) . 
ج – الجهة التي صدر منها الإكراه 
200 – الإكراه الصادر من المتعاقد الآخر والإكراه الصادر من الغير : كان القانون القديم يميز بين الإكراه والتدليس إذا صدرا من الغير . فالإكراه الصادر ، الغير يؤثر في صحة العقد ، أما التدليس الصادر من الغير فلا اثر له في ذلك . وكان هذا موضعاً للنقد سبقت الإشارة إليه . أما القانون الجديد فقد نبذ هذا التمييز ، وجعل الحكم سواء في الحالتين . فعالج بذلك عيباً ظاهرة من عيوب القانون القديم . 
والأصل أن الإكراه يفسد الإرادة كما قدمنا . وسواء صدر الإكراه من أحد المتعاقدين أو صدر من الغير فإن اثر الإكراه من حيث هو عيب في الرضاء لا يختلف ، والإرادة تكون فاسدة في الحالتين . أما من حيث أن الإكراه عمل غير مشروع ، فإن المسئول عن هذا العلم هو المكره ، وهو في إحدى الحالتين غير في الحالة الأخرى . 
والذي يعنينا هنا هو الإكراه بوصفه عيباً في الرضاء . وفلا فرق إذن بين إكراه يصدر من أحد المتعاقدين وإكراه يصدر من الغير : كلاهما يفسد الإرادة ويجعل العقد قابلا للإبطال (   ) . 
إلا أن هذا الحكم منوط بتوافر شرط هو ذات الشرط الذي أوردناه في التدليس . فالإكراه الصادر من الغير لا يجعل العقد قابلا للإبطال إلا إذا اثبت المتعاقد المكره أن المتعاقد الآخر كان يعلم ، أو كان من المفروض حتما أن يعلم ، بهذا الإكراه . ذلك أن الإكراه إذا صدر من الغير ، ولم يكن المتعاقد الآخر يعلم به أو يفرض حتما أنه يعلم به ، واختار المتعاقد المكره إبطال العقد ، فإنه يصح للمتعاقد حسن النية أن يطالبه بالتعويض ، وخير تعويض هنا هو استبقاء العقد صحيحاً ، فيقوم في هذه الصورة أيضاً لا أساس من الإرادة الحقيقية ، بل على أساس من التعويض . وهذا هو عين ما قررناه في التدليس (   ) . 
ويلاحظ أن الإكراه في هذه الصورة الأخيرة ، حيث يبقى العقد صحيحاً لحسن نية المتعاقد الآخر ، إذا لم ينتج أثره كعيب من عيوب الرضاء ، فإنه ينتج أثره كعمل غير مشروع ، ويكون للمكره أن يطالب الغير الذي صدر منه الإكراه بتعويض ما أصابه من الضرر (   ) . 

الإكراه الصادر عن ظروف تهيأت مصادفة ( حالة الضرورة ) : 

وقد يصدر الإكراه لا من أحد المتعاقدين ولا من الغير ، ولكن من ظروف تهيأت مصادفة لا يد لأحد فيها ، واقتصر المتعاقد على الإفادة منها واستغلالها لحمل من وقع تحت تأثير هذه الظروف على التعاقد ، كما إذا تقدم شخص لإنقاذ آخر من خطر الغرق أو الحريق أو القتل أو نحو ذلك وحصل منه قبل إنقاذه على تعهد بإعطائه مقداراً جسيما من المال ثمناً لهذا الإنقاذ ، وكما لو اتفق جراح مع مريض على إجراء عملية في نظير أجر باهظ مبالغ فيه . 
وقد ذهبت النظرية التقليدية في الإكراه إلى التمييز ما بين هذا الفرض والفرض الذي يصدر فيه الإكراه من الغير . فإن الإكراه الصادر من الغير يقصد به الضغط على المتعاقد حتى ينتزع منه الرضاء ، ومن ثم يؤثر في صحة العقد . أما الفرض الذي نحن بصدده فالظروف الضاغطة على الإرادة قد تهيأت مصادفة ، ولم يكن الغرض منها الضغط على إرادة المتعاقد ، ولم يفعل المتعاقد الآخر إلا أنه استغلها عند تعاقده . ولما كانت النظرية التقليدية تشترط في الإكراه أن ينتزع الرضاء ، وقد ورد فعلا لفظ " الانتزاع " ( extorque ) في المادة 1109 من القانون المدني الفرنسي ، فإنها لا تجعل الإكراه الذي تهيأت ظروفه مباشرة ذا اثر في صحة العقد (   ) . 
ولكن هذا التمييز الذي تأخذ به النظرية التقليدية لا مبرر له ، وهو اثر من آثار القانون الروماني بقى في القانون الفرنسي بعد أن زالت مقتضياته (   ) . والصحيح أن الإكراه متحقق في كلا الفرضين . وما دامت إرادة المتعاقد لم تكن حرة ، بل صدرت تحت تأثير الضغط ، فالإرادة فاسدة ، سواء في ذلك أن يكون مصدر الضغط هو المتعاقد الآخر أو أجنبي أو ظروف خارجية لا يد لا حد فيها ، فاثر الضغط في إرادة المتعاقد واحد في كل هذه الأحوال . فإذا تعرض شخص لخطر الموت ، وتقدم لإنقاذه شخص اشترط أن يأخذ مبلغاً جسيماً من أجل ذلك ، فلا فرق ، من حيث حرية إرادة المدين ، إذا كان مصدر الخطر الذي يتهدده هو من فعل الدائن أو من عمل الغير أو نتيجة الصدفة ، وما دام الدائن قد علم بالظروف الخارجية واستغله فالعقد قابل للإبطال . كذلك الطبيب الذي يستغل خطورة المرض ، فيضطر المريض إلى الالتزام بمبلغ جسيم اجرا للعلاج لا يتناسب البتة مع الأجر الذي يؤخذ عادة ، إنما يتعاقد مع شخص قد فقد حرية الإرادة ، ويجب أن يبطل العقد في هذه الحالة ، ومن ينقذ سفينة على وشك الغرق تلقاء تعهد باهظ من ربان السفينة ليس له أن يتمسك بهذا التعهد لأن الإرادة قد أفسدها الإكراه . 
وقد أشتمل المشروع التمهيدي للقانون الجديد على نص صريح في هذا الموضوع يميز بين ما إذا كان المتعاقد الآخر حسن النية ولم يقصد أن يستغل المتعاقد المهدد بخطر تهيأت ظروفه مصادفة ، أو كان سيء النية وأراد استغلال هذه الظروف . ففي الحالة الأولى وحدها لا يكون للمتعاقد المكره حق إبطال العقد (   ) ، ويستخلص من مفهوم المخالفة أن الإكراه يكون سبباً لإبطال العقد في الحالة الثانية . وهذا التمييز معقول ويجب الأخذ به في ظل القانون الجديد . وإذا كان المشروع النهائي قد اغفل هذا النص فلم يكن ذلك لأنه أراد مخالفة حكمه ، بل هو قد اعتمد على القواعد العامة في تقرير هذا الحكم (   ) ، وبخاصة على قواعد الاستغلال.
من كتاب الوسيط للدكتور والفقيه القانوني عبدالرزاق السنهوري
author-img
مدونة المحامي اليمني عبدالرقيب محمد القاضي

تعليقات

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق
    google-playkhamsatmostaqltradent