recent
جديد المشاركات

الآثار التي تترتب على العقد الباطل والعقد القابل للإبطال

                   الدكتور عبدالرزاق السنهوري 

العقد الباطل ليس عملا قانونياً ( acte juridique ) إذ هو كعقد لا وجود له ، ولكنه عمل مادي ( acte materiel ) أو واقعة قانونية ( fait juridique ) . وهو بهذه المثابة قد ينتج أثراً قانونياً ، ليس هو الأثر الأصلي الذي يترتب على العمل القانونين باعتباره عقداً ، بل هي اثر عرضي يترتب على العمل المادي باعتباره واقعة قانونية . على أن العقد الباطل قد ينتج في حالات الاستثنائية أثره الأصلي باعتباره عقداً ، وهذا شذوذ تقتضيه تارة ضرورة استقرار التعامل ، وطوراً وجوب حماية حسن النية . 

والعقد القابل للإبطال إذا تقرر بطلانه انعدم منذ البداية ، وصار هو والعقد الباطل بمنزلة سواء . فإذا قلنا العقد الباطل ، كان المقصود أن يدخل في مضمونه العقد القابل للإبطال بعد أن يتقرر إبطاله ( ) . 

ونتناول الآن كلا من الآثار العرضية والآثار الأصلية للعقد الباطل . 

المطلب الأول 

الآثار العرضية للعقد الباطل 

304 – استعراض بعض هذه الآثار : قد ينتج العقد الباطل آثاراً باعتباره واقعة مادية كما قدمنا . من ذلك الزواج غير الصحيح ، فهو في الشريعة الإسلامية لا ينتج آثاره الأصلية كحل التمتع ووجوب النفقة والتوارث ما بين الزوجين ، ولكنه ينتج آثاراً عرضية كوجوب العدة في بعض الأحوال ووجوب المهر بعد الدخول وثبوت النسب احتياطاً وسقوط الحد ولو مع العلم بالبطلان على خلاف في الرأي ( ) . وهذه الآثار لا تترتب على الزواج باعتباره عقداً ، فهو بهذا الاعتبار باطل لا ينتج أثراً ، ولكنها تترتب عليه باعتباره واقعة مادية . فإذا وقع أن رجلا وامرأة ارتبط أحدهما بالآخر كما لو كانا زوجين ، فالعدة واجبة على اثر هذا الاتصال الفعلي ، والبنوة تابتة بطبيعة الأشياء ، والمهر بمثابة تعويض عن الدخول ، وسقوط الحد عند من يقولون به يكون للشبهة لا لقيام رباطة الزوجية . 

وهناك من الإجراءات ما يكون باطلا ، ولكنه ينتج بعض الآثار . من ذلك صحيفة الدعوى إذا كلف فيها المدعى عليه بالحضور أمام محكمة غير مختصة ، فتكون باطلة وهي مع ذلك تقطع التقادم ( م 383 جديد ) . ومن ذلك أيضاً العطاء اللحق في المزايدة يسقط العطاء السابق حتى لو كان العطاء اللاحق باطلا ( م 99 جديد ) . 

ومن أهم الآثار العرضية التي ينتجها العقد الباطل أثران يستخلصان من تطبيق نظريتين معروفتين ، إحداهما نظرية تحول العقد ، والأخرى نظرية الخطأ عند تكوين العقد . ونقول كلمة موجزة عن كل منهما . 

1 – نظرية تحول العقد ( * ) 

( Conversicn du contrat ) 

( ونظرية انتقاص العقد Reduction du contrat ) 

305 – النصوص القانونية : لم يكن القانون القديم يتضمن نصاً يقرر النظرية كمبدا عام ولكن القضاء كان يطبقها في بعض الحالات . أما القانون الجديد فقد أورد فيها نصاً صريحاً هو المادة 144 ، وهي تجري على الوجه الآتي : 

" إذا كان العقد باطلا أو قابلا للإبطال وتوافرت فيه أركان عقد أخر ، فان العقد يكون صحيحا باعتباره العقد الذي توافرت أركانه ، إذا تبين أن نية المتعاقدين كانت تنصرف إلى إبرام هذا العقد ( ) " .

ونظرية تحول العقد نظرية ألمانية ، صاغها الفقهاء الألمان في القرن التاسع عشر ، واخذ بها التقنين الألماني كقاعدة عامة في نص صريح هو المادة 140 ( ) . وعلى نهج التقنين الألماني سار القانون المدني الجديد . 

306 – كيف يتحول لتصرف الباطل إلى تصرف آخر صحيح : وتتلخص النظرية في أن التصرف الباطل قد يتضمن رغم بطلانه عناصر تصرف آخر ، فيتحول التصرف الذي قصد إليه المتعاقدان وهو التصرف الباطل ، إلى التصرف الذي توافرت عناصره وهو التصرف الصحيح . وبذلك يكون التصرف الباطل قد أنتج أثراً قانونياً عرضياً لا أصلياً . 

ومن الأمثلة على تحول التصرف الباطل إلى تصرف آخر صحيح " كمبيالة " لم تستوف الشكل الواجب فتتحول من كمبيالة باطلة إلى سند عادي صحيح . ومن الأمثلة أيضاً شخص يتعهد تعهداً لا رجوع فيه أن يجعل آخر وارثا ً له ، فيكون التعهد باطلا لأن الشريعة الإسلامية لا تعرف عقد إقامة الوارث ( institution d'heritier ) ، ولكنه يتحول إلى وصية صحيحة يجوز الرجوع فيها . ومن أمثلة التحول كذلك وصية لاحقة لوصية سابقة ، فإذا كانت الوصية اللاحقة باطلة تحولت إلى عدول صحيح عن الوصية السابقة . ومثل هذا تصرف باطل في شيء كان قد أوصى به المتصرف قبل صدور التصرف ، فيتحول التصرف الباطل إلى عدول صحيح عن الوصية . 

307 – شروط تحول العقد : ويتبين مما تقدم أن هناك شروطاً ثلاثة لتحول التصرف الباطل إلى تصرف آخر صحيح : ( 1 ) بطلان التصرف الأصلي . ( 2 ) وتضمنه لعناصر تصرف آخر . ( 3 ) وانصراف إرادة المتعاقدين المحتملة إلى هذا التصرف الآخر ( ) . 

فيجب أولاً أن يوجد تصرف أصلي باطل . وتترتب على هذا الشرط نتيجتان : ( 1 ) لو أن التصرف الأصلي كان صحيحا؟ً ، فلا يتحول إلى تصرف آخر كان المتعاقدان يؤثرانه على التصرف الأول ، حتى لو تضمن التصرف الصحيح عناصر هذا التصرف الآخر . مثل ذلك هبة صحيحة تتضمن عناصر الوصية ، ويتبين أن كلا من الواهب والموهوب له كان يفضل الوصية على الهبة ، فلا تتحول الهبة إلى وصية في هذه الحالة ، لأن الهبة وقعت صحيحة ، ولا يتحول إلا التصرف الباطل . ( 2 ) يجب أن يكون التصرف الأصلي باطلا بأكمله . أما إذا كان جزء منه باطلا وكان التصرف قابلا للانقسام ، فلا يكون هناك محل لتحول التصرف ، بل لانتقاصه ( reduction ) ، فيزول الجزء الباطل ويبقى الجزء الصحيح . وقد نصت المادة 143 من القانون المدني الجديد صراحة على هذا الحكم ، فقضت بأنه " إذا كان العقد في شق منه باطلا أو قابلا للأبطال فهذا الشق وحده هو الذي يبطل ، إلا إذا تبين أن العقد ما كان ليتم بغير الشق الذي وقع أو قابلا للأبطال فيبطل العقد كله " ( ) . مثل ذلك قسمة أعيان بعضها موقوف وبعضها مملوك ، فتقع قسمة الموقوف باطلة ، وتبقى قسمة المملوك صحيحة ، إلا إذا اثبت من يطعن في القسمة كلها إنها ما كانت لتتم في المملوك دون الموقوف . ويتبين من ذلك أن وجود شرط باطل في وصية ، يكون من شأنه أن يبطل الوصية كلها إذا كان هو الدافع إلى التصرف ، أو يبطل هو وحده إذا لم يكن هو الدافع ، يدخل في نطاق قاعدة انتقاص العقد . ويدخل في نطاق هذه القاعدة أيضاً ما يشترط فيه القانون أن يقف عند رقم محدود على أن ينقص ما يزيد على هذا الرقم ، كعقد بقاء في الشيوع اتفق على أن تكون مدته أكثر من خمس سنوات فتنقص المدة إلى خمس ( م 834 جديد ) ، أو عقد قرض بفوائد تزيد على 7 في المائة فتنقص الفوائد إلى 7 في المائة ( م 227 جديد ) . في مثل هذه الأحوال ينتقص العقد لا يتحول ما دام قابلا للتجزئة . أما إذا لم يكن قابلا لها فإنه يبطل بأكمله . وقد يكون هناك محل في هذه الحالة لتحوله إلى عقد آخر صحيح ، كما قدم يكون هناك محل في حالة الانتقاص لتحول الجزء الباطل وحده إلى عقد آخر صحيح . وانتقاص العقد ليس إلا تطبيقاً للقواعد العامة ، وكان القضاء يأخذ به في ظل القانون القديم ( ) . 

ويجب ثانياً أن يتضمن التصرف الباطل جميع عناصر التصرف الآخر الذي يتحول إليه دون أن يضاف إلى هذا التصرف الآخر عنصر جديد . فإذا اختل هذا الشرط لم يجز التحول . مثل ذلك شخص باع أرضا من آخر ، وتبين أن الأرض غير مملوكة للبائع ، فلا يتحول العقد إلى بيع يقع على منزل مملوك للبائع ، حتى لو ثبت أن المتعاقدين كانا يقبلان ذلك لو علما بأن البائع لا يملك الأرض ( ) . 

ويجب أخيراً أن تنصرف إرادة المتعاقدين المحتملة إلى التصرف الآخر الذي تحول إليه التصرف الأصلي . وليس معنى ذلك أن المتعاقدين أرادا التصرف الآخر إرادة حقيقية ، بل معناها إنهما كانا يريدانه لو إنهما علما بان التصرف الأصلي باطل . فإرادتهما الواقعية انصرفت إلى التصرف الأصلي ، وانصرفت ارادتهما المحتملة إلى التصرف الآخر . ومن هنا نرى أن القاضي قد ا ستخلص من التصرف الباطل – باعتباره واقعة مادية – عناصر تصرف صحيح انصرفت إليه الإرادة المحتملة للمتعاقدين ، فأقام هذا التصرف الصحيح مقام التصرف الباطل ، وجعل ذاك أثراً عرضياً لهذا ( ) . 

نظرية الخطأ عند تكوين العقد ( * ) 

( Culpa in contrahendo ) 

308 - كيف يكون هناك خطأ عند تكوين العقد – وما هو جزاء هذا الخطأ : قد يكون العقد باطلا أو قابلا للإبطال ، ويكون سبب البطلان آتياً من جهة أحد المتعاقدين ، أما المتعاقد الآخر فيعتقد صحة العقد ، ويطمئن إلى ذلك ، ويبني تعامله على هذا الاعتقاد . فإذا تقرر بطلان العقد ، ناله من وراء ذلك ضرر لم يكن في حسابه . فهل يرجع بالتعويض على من كان سبب البطلان آتياً من جهته ، وعلى أي أساس قانونين يكون هذا الرجوع ؟ 

هذا هو وضع المسألة في نظرية الخطأ عند تكوين العقد . ووجه الصعوبة فيها أن العقد باطل ، فليس هناك إن عقد تؤسس عليه مسئولية المتعاقد الذي أتى سبب البطلان من جهته ، فكيف إذن يمكن الرجوع عليه ؟ 

ونأتي بأمثلة توضح ما أسلفناه . قد يكون العقد باطلا لا نعدام الرضاء ، كشخص يترك خاتمه عند آخر فيوقع هذا به عقداً يطمئن إليه الطرف الآخر ، وكمدير شركة يصدر سندات غير صحيحة يطمئن إليها من يشتريها ، وكالموجب يعدل عن إيجابه قبل أن يتلاقى بالقبول ولكن المتعاقد الآخر يطمئن إلى أن العقد قد تم . وقد يرجع سبب البطلان للمحل أو السبب ، كأن يبيع شخص شيئاً غير موجود أن لم تتوافر فيه شروط المحل ، وكأن يلتزم البائع لسبب غير مشروع ، ولكن المشتري لا يعلم سبب البطلان ويطمئن إلى قيام العقد . وقد يكون العقد قابلا للإبطال ، كأن يتقدم قاصر إلى التعاقد ويطمئن من يتعاقد معه إلى صحة العقد ، وكأن يقع أحد المتعاقدين في غلط لا يشترك معه فيه الطرف الآخر بل يطمئن إلى أن التعاقد صحيح ، وكمن يشتري من غير المالك معتقداً أنه المالك . 

ومن هذه الأمثلة ما عالجه القانون بنصوص خاصة . فالموجب الذي يعدل عن إيجابه إذا وصل عدوله إلى الطرف الآخر بعد وصول الإيجاب لم يعتد بالعدول ( م 91 جدي ) . ولا يعتد بعدم مشروعية السبب إذا كان الطرف الآخر لا يعلم بذلك كما أسلفنا . ويلزم ناقص الأهلية بالتعويض إذا لجأ إلى طرق إحتيالية ليخفي نقص أهليته ( م 119 جديد ) . وإذا شاب التعاقد غلط لم يشترط فيه الطرف الآخر ولم يعلم به ، فالغط لا يؤثر في صحة العقد ( م 120 جديد ) . وإذا حكم للمشتري بإبطال البيع وكان يجهل أن المبيع غير مملوك للبائع ، فله أن يطالب بتعويض ولو كان البائع حسن النية ( م 468 جديد ) . 

ولكن في غير الأمثلة التي ورد فيها نص خاص كيف يستطيع المتعاقد الذي اطمأن إلى صحة العقد أن يرجع على المتعاقد الذي أتى سبب البطلان من جهته ؟ يمكن القول منذ الآن إن العقد الباطل يعتبر واقعة مادية ، إذا توافرت فيها شروط الخطأ التقصيري ، رجع المتعاقد الذي اطمأن إلى صحة العقد بالتعويض عن هذا الخطأ على المتعاقد الذي أتى من جهته سبب البطلان . ومن ثم يكون العقد الباطل قد أنتج أثراً قانونيناً عرضياً ، لا على أساس أنه عقد ، بل على أساس أنه واقعة مادية . 

309 – نظرية إهرنج في الخطأ عند تكوين العقد : على أن إهرنج ( Ihering ) الفقيه الألماني المعروف واجه هذا الفرض في صوره المتعددة ، فوضع له نظرية معروفة بنظرية الخطأ عند تكوين العقد ( Culpa in contrahendo ) . ودعاه إلى ذلك أن القانون الروماني كان في ألمانيا هو القانون المعمول به في عهده . ولم يكن هذا القانون يسلم بأن كل خطأ يرتب مسئولية مدنية ، بل كانت الأعمال الضارة التي توجب التعويض مقيدة بشروط معينة يقضي بها قانون أكيليا ( Aquilia ) المعروف . فلم يستطيع إهرنج أن يقرر أن العقد الباطل ، كواقعة مادية ، يعتبر خطأ يوجب التعويض . ولكنه نقب في نصوص القانون الروماني فعثر على بعض النصوص التي تقضي برجوع أحد المتعاقدين على الآخر في العقد الباطل بمقتضى دعوى العقد ذاتها ( ) . واستخلص من ذلك أن العقد بالرغم من بطلانه ينشيء التزاماً بالتعويض كعقد لا كواقعة مادية . ولم يرد الاقتصار على التطبيقات التي وجدها في القانون الرومانين بل رسم مبدأ عاماً يقضى بأن كل متعاقد تسبب ، ولو بحسن نية ، في إيجاد مظهر تعاقدي اطمأن إليه المتعاقد الآخر بالرغم من بطلان العقد الذي قام عليه هذا المظهر ، يلتزم بمقتضى العقد الباطل ذاته أن يعوض المتعاقد الآخر ما أصابه من الضرر بسبب اطمئنانه إلى العقد ، بحيث يرجع إلى الحالة التي كان يصير إليها لو لم يتعاقد ( ) . 

وتتميز نظرية إهرنج هذه بان كلا من المقومات الثلاثة للمسئولية – الخطأ والعقد والتعويض – يتلون فيها بلون خاص . 

أما الخطأ فينحصر في إقدام المتعاقد الذي أتى سبب البطلان من جهته على التعاقد ، وكان واجباً عليه أن يعلم بما يحول دون هذا التعاقد من أسباب توجب بطلان العقد . على أنه حتى لو فرض أن هذا المتعاقد كان لا يستطيع أن يعلم بسبب البطلان ، فإنه يبقى أن ضرراً قد وقع ، وأن من العدل أن يتحمله هو وقد وجد سبب البطلان في جانبه ، لا أن يتحمله المتعاقد الآخر وهو حسن النية ولم يكن في موقف يستطيع فيه أن يكشف عن هذا السبب . فوجود سبب البطلان في جانب أحد المتعاقدين هو في ذاته خطأ ( culpa ) يوجب التعويض . 

وأما العقد الذي اخل به المتعاقد المسئول فقد كان من الممكن تصويره على أنه عقد ضمان التزم بمقتضاه هذا المتعاقد أن يكفل للمتعاقد الآخر صحة التعاقد . ووجه ذلك أن كل شخص أقدم على التعاقد يتعهد ضمناً ألا يقوم من جانبه سبب يوجب بطلان العقد ، ورضاء المتعاقد الآخر أن يتعاقد معه إنما هو قبول ضمني لهذا التعهد ، فيتم عقد الضمان بإيجاب وقبول ضمنيين . ولكن إهرنج يصطدم هنا أيضاً بقواعد القانون الرومانين فهذه القواعد ضيقة في العقد كما هي ضيقة في الخطأ . وليس كل إيجاب وقبول في القانون الروماني يعتبر عقداً . لذلك لا يقيم إهرنج مسئولية المتعاقد على عقد الضمان هذا ، إذ هو لا يعتبر عقداً كما قدمنا ، بل يقيمها على العقد الباطل ذاته ، ولكن لا كواقعة مادية فليس كل عمل ضار يعتبر خطأ في القانون الروماني ، بل كعقد حيث تسعفه مجموعة من النصوص استخلص منها إهرنج قاعدة عامة كما أسلفنا . فإذا قيل إن العقد باطل فرضاً فكيف ينتج أثراً ، أجاب إهرنج بأنه لا يجوز أن يجرد العقد الباطل من كلا آثاره ، وإذا نقص العقد ركن أو شرط فأصبح باطلا ، كان معنى البطلان أن العقد لا ينتج من الآثار القانونية ما يقابل هذا الركن أو هذا الشرط . واستشهد إهرنج على صحة هذا الرأي بتطبيقات مختلفة في القانون الروماني ( ) . وهذا رأي يقرب كثيراً من نظرية تنوع مراتب البطلان التي سبقت الإشارة إليها . ونرى من ذلك أن إهرنج يرتب على العقد الباطل أثراً أصلياً ، لا باعتباره واقعة مادة ، بل على أساس أنه عقد . وهذه الحصيصة هي أبرز خصائص نظريته . 

وأما التعويض فلونه الخاص في نظرية إهرنج هو ألا يكون تعويضاً كاملا كما في التعويض عن عقد صحيح . فالتعويض عن العقد الصحيح يكون عن المصلحة الايجابية ( interet positif – Erfullungs Interesse ) . أما التعويض عن العقد الباطل فيكون عن المصلحة السلبية ( interet negative – negative Vertrugs Interesse ) . ويأتي إهرنج بمثل يبين الفرق بين التعويضين : شخص احتج . غرفة في فندق وتخلف عن الحضور . فإذا كان العقد صحيحاً كان مسئولا عن تعويض المصلحة الايجابية ، أي عن الضرر الذي أصاب صاحب الفندق من عدم تنفيذ العقد ، فيدفع اجرة الغرفة . أما إذا كان العقد باطلا ومع ذلك اطمأن صاحب الفندق إلى صحة التعاقد ، فلا يرجع إلا بالمصلحة السلبية ، فيطلب تعويضاً عن الضرر الذي أصابه من جراء توهمه صحة العقد ليعود بهذا التعويض إلى الحالة التي كان عليها لو لم يوجد هذا المظهر الخداع من التعاقد . ويترتب على ذلك أنه لا يرجع بتعويض إلا إذا اثبت أن الغرفة قد طلبها آخرون فرفض الطلب لاعتقاده أن الغرفة محتجزة . وقد رأينا في الحالة الأولى أنه يرجع بأجرة الغرفة سواء طلب الغرفة آخرون أو لم يطلبها أحد . – ويكون التعويض عن المصلحة السلبية أقل عادة من التعويض عن المصلحة الايجابية . ويضرب إهرنج لذلك مثلا : تاجر باع عشرة صناديق من " السجاير " ، وكان العقد صحيحاً ولكن المشتري لم ينفذه ، فللبائع أن يطلب تعويضاً عن المصلحة الايجابية ، أي الربح الذي كان يجنبه من الصفقة والخسارة التي لحقته من عدم تنفيذ العقد كما لو تكبد نفقات في إرسال الصناديق واستردادها . أما إذا كان العقد باطلا ، بأن كان المشتري لم يطلب إلا صندوقاً واحداً مثلا ولكن وقع خطأ مادي في الرسالة جعل البائع يعتقد أن المطلوب هو عشرة صناديق ، فإن التعويض الذي يطلبه البائع يكون عن المصلحة السلبية حتى يعود للحالة التي كان عليها لو لم يوجد مظهر هذا التعاقد ، فيرجع بنفقات إرسال الصناديق واستردادها دون المكسب الذي كان يربحه لو تمت الصفقة . فالتعويض عن المصلحة السلبية هنا أقل التعويض عن المصلحة الايجابية . – وقد يكون مساوياً له ، وذلك أن التعويض عن المصلحة السلبية ينطوي هو أيضاً على عنصرين : الخسارة التي لحقت الدائن والمكسب الذي فاته . فإذا فرض أنه عرض على التاجر صفقة لبيع الصناديق العشرة بالثمن ذاته وامتنع عن إتمامها ظناً منه أن الصفقة الأولى قد تمت ، ففي هذه الحالة يرجع أيضاً بالمكسب الذي فاته إلى المصروفات التي أنفقها ، فيستوي التعويضان – وإذا فرض أن الصفقة التي امتنع عن إتمامها كانت تدر عليه ربحاً أكثر من ربح الصفقة الأولى ولكنه رفضها احتراماً لتعاقده الأول ، فإن التعويض عن المصلحة السلبية يكون في هذه الحالة اكبر من التعويض عن المصلحة الايجابية . ولكن الظاهر أن الدائن إذا تقاضى تعويضاً عن المصلحة السلبية ، فلا يصح أن يجاوز هذا التعويض حدود التعويض عن المصلحة الايجابية ، وإلا استفاد دون حق من بطلان العقد . – على أن التعويض عن المصلحة السلبية قد يكون في بعض الفروض منعدماً ، ففي المثال الذي نحن بصدده إذا فرض أن التاجر تبين بطلان العقد قبل أن يرسل الصناديق إلى المشتري وقبل أن تعرض عليه صفقة أخرى ، فإنه لا يتقاضى تعويضاً ما ، إذ لم يفته مكسب ولم يتكبد خسارة ( ) . 

310 – اثر نظرية إهرنج في القوانين الحديثة : وقد تأثرت بعض القوانين الحديثة بنظرية إهرنج سالفة الذكر . ونتعقب هذا الأثر في القانون الألماني بنوع خاص . ثم نرى إلى أي حد أخذ بالنظرية كل من القانون الفرنسي والقانون المصري القديم والقانون المصري الجديد . 

أما في القانون الألماني فقد أخذ المشرع بنظرية الخطأ عند تكوين العقد ، ولكن لا كنظرية عامة ، بل في مواطن متفرقة . فنص في المادة 122 على أنه إذا كان إعلان الارادةب اطلا وفقاً للمادة 118 ( إرادة غير جدية ) ، أو طعن فيه بالبطلان على أساس المادتين 119 ( الغلط ) و 120 ( الخطأ في نقل الإرادة ) ، فعلى من صدرت منه هذه الإرادة إذا كانت موجهة إلى شخص معين أن يعوض هذا الشخص ، وإذا لم تكن موجهة لشخص ما أن يعوض أي شخص ، عن الضرر الذي أصابه لاعتقاده صحة الإرادة ، دون أن يجاوز مقدار التعويض حد ماله من المصلحة في أن تكون الإرادة صحيحة . وينقطع الالتزام بالتعويض إذا كان من أصابه الضرر يعلم أو يجب ضرورة أن يعلم سبب البطلان أو القابلية للإبطال . وهذا النص تطبيق لنظرية الخطأ عند تكوين العقد في فروض معينة : فرض الإرادة غير الجدية وفروض الغلط . ونصت المادة 307 من القانون الألماني على أن الطرف الذي يعلم ، أو يجب ضرورة أن يعلم ، عند إتمام عقد يرمى إلى عمل مستحيل ، باستحالة هذا العمل ، يلتزم بتعويض الطرف الآخر عن الضرر الذي أصابه من جراء اعتقاده بصحة العقد ، دون أن يجاوز مبلغ التعويض حد المصلحة التي لهذا الطرف في صحة العقد . على أنه لا محل للالتزام بالتعويض إذا كان الطرف الآخر يعلم ، أو يجب ضرورة أن يعلم ، بهذه الاستحالة . وهذا النص تطبيق آخر للنظرية في فرض بطلان العقد لاستحالة المحل ، ويتميز بأنه يشترط فيه خطأ من جانب الطرف المسئول ، فهو إما أن يكون عالماً باستحالة تنفيذ العقد وفي هذه الحالة يكون سيء النية ، وإما أن يكون في استطاعته أن يعلم بهذه الاستحالة وفي هذه الحالة يكون مقصراً ، فهو مخطئ في الحالتين ومسئوليته مبنية على هذا الخطأ . ونلاحظ أن القانون الألماني إذا كان قد أخذ بنظرية الخطأ عند تكوين العقد في الفروض التي قدمناها ، فإنه لم يبين المسئولية على خطأ عقدي كما فعل إهرنج ، فقد جعل المسئولية تقصيرية في الفرض كما رأينا ، وجعلها مسئولية مادية في الفروض الأولى . 

أما في القانون الفرنسي فقد ذهبت بعض الفقهاء الفرنسيين إلى الأخذ بنظرية الخطأ عند تكوين العقد . واستند سالي في ذلك إلى نص المادة 1599 من القانون الفرنسي ، وهوي قضي بان بيع ملك الغير باطل ويترتب عليه الحكم بالتعويض إذا كان المشتري يجهل أن الشيء مملوك للغير . فمصدر التعويض في هذه الحال . في نظر سالي ، لا يمكن أن يكون خطأ من البائع فقد يكون حسن النية ، وإنما هو عقد ضمان يستخلص من ظروف التعاقد ، إذ أن البائع بإقدامه على البيع يكون قد تعهد ضمناً بكفالة صحة العقد ( ) . على أن جمهرة الفقهاء الفرنسيين لا تأخذ بنظرية الخطأ عند تكوين العقد ، ونرى في حالة ما إذا كان العقد باطلا أن من أتى سبب البطلان من جهته لا يكون مسئولا إلا إذا ثبت خطأ في جانبه طبقاً لقواعد المسئولية التقصيرية ( ) . 

والقانون المصري القديم كالقانون الفرنسي لم يؤخذ فيه بنظرية الخطأ عند تكوين العقد ( ) . 

وكذلك هو الأمر في القانون الجديد . بل إن المشروع التمهيدي لهذا القانون كان قد تضمن نصاً يقرر هذا النظرية ، فحذف النص في المشروع النهائي " لأن نظرية الخطأ عند تكوين العقد نظرية ألمانية دقيقة يحسن عدم الأخذ بها " ( ) . وإذا كانت الفقرة الأولى من المادة 142 من القانون الجديد تنص على أنه " في حالتي إبطال العقد وبطلانه يعاد المتعاقدان إلى الحالة التي كان عليها قبل العقد " ، فليس المقصود من هذا كما سنرى التعويض عن المصلحة السلبية المعروفة في نظرية الخطأ في تكوين العقد ، بل أن يرد كل من المتعاقدين ما تسلمه من الآخر ، دون تعويض عن أية مصلحة ايجابية أو سلبية ، إلا إذا ثبت في جانب المسئول خطأ تقصيري ، وإذا تعذر الرد حكم بتعويض معادل . وإذا كانت المادة 119 تنص على أنه " يجوز لناقص الأهلية أن يطلب إبطال العقد ، وهذا مع عدم الإخلال بالزامه بالتعويض إذا لجأ إلى طرق إحتيالية ليخفي نقص أهليته " . فالتعويض هنا ، كما هو ظاهر ، مبنى على أساس المسئولية التقصيرية ، وهي ترجع إلى الطرق الإحتيالية التي استعملها القاصر ، بحيث لو لم يستعملها لما ألزم بتعويض لا عن مصلحة ايجابية ولا عن مصلحة سلبية . وإذا كانت المادة 468 في بيع ملك الغير قد نصت على أنه " إذا حكم للمشتري بإبطال البيع ، وكان يجهل أن المبيع غير مملوك للبائع ، فله أن يطالب بتعويض ولو كان البائع حسن النية " ، فذلك لأن المشرع قد اعتبر أن بيع الشخص لشيء غير مملوك له يعتبر في ذاته خطأ تقصيرياً يوجب التعويض ، ولو كان هذا الشخص حسن النية . 

311 – رفض نظرية إهرنج والرجوع إلى فكرة الخطأ التقصيري دون الخطأ العقدي : والواقع من الأمر أن نظرية إهرنج كانت من نظريات الضرورة ، قال بها اضطراراً لما ضاق القانون الرومانين عن أن يتسع لحاجات التعامل ، فوسع من فكرة الخطأ ومن فكرة العقد كما رأينا . أما الآن فنحن في سعة من امرنا بعد أن تحررنا من قيود القانون الرومانين وأصبح كل خطأ موجباً للمسئولية أياً كان هذا الخطأ . فإذا ثبت في جانب من أتى سبب البطلان من جهته تقصير كان مسئولا ، ولن نحار في تكييف هذه المسئولية ، فهي مسئولية تقصيرية مبنية على الخطأ الثابت . 

على أن نظرية الخطأ عند تكوين العقد نظرية غير صحيحة . فهي بين أمرين . إما أن تجعل قيام سبب البطلان في جانب المتعاقد خطأ حتما ، وقد يكون هذا المتعاقد يجهل كل الجهل سبب البطلان ولم يرتكب أي تقصير في ذلك ، فالخطأ هنا أقرب إلى فكرة تحمل التبعة منه إلى الخطأ التقصيري . وإما أن تفرض عقداً ضمنياً بكفالة التعاقد ، ونحن إنما نتناول هذا العقد ونقسر عليه المتعاقد قسراً ولا نتمشى في ذلك مع نيته الحقيقية . على أن هذا العقد الضمني لا يستقيم لنا في كل الأحوال . فلو أن سبب البطلان كان القصر ، أيكون القاصر ، وهو غير ملتزم بالعقد الصريح الذي تقرر إبطاله لنقص أهليته ، ملتزماً بالعقد الضمني الذي يكفل به صحة التعاقد ! وأين نقص الأهلية ! ألا يؤثر في العقد الضمني كما اثر في العقد الصريح ! وقل مثل ذلك في حالة بطلان العقد لعدم جدية الإرادة ، فمن كان هازلا في العقد الصريح إلا يكون أكثر هزلا في العقد الضمني ! ثم إن التعويض عن المصلحة السلبية دون المصلحة الايجابية ينطوي على شيء من التحكم قد يصعب تبريره في بعض الحالات . كذلك الباقي من المقومات الثلاثة للنظرية – الخطأ والعقد – في كل منهما انحراف غير مستساغ عن القواعد العامة ، وهو انحراف لم نعد الضرورة تبرره . والقانون الألماني ذاته لم يأخذ ، كما رأينا ، بالنظرية كقاعدة عامة ، بل قصر النص فيها على حالات معينة ، وهو في هذه الحالات حاد عن النظرية في الصميم منها ، فلم يجعل المسئولية عقدية ، بل جعلها تقوم تارة على تحمل التبعة وطوراً على التقصير ، وقد تقدم بيان ذلك . 

فالأولى إذن الرجوع إلى فكرة المسئولية التقصيرية في الخطأ عند تكوين العقد ، واعتبار العقد الباطل واقعة مادية قد تستكمل عناصر الخطأ التقصيرى فتوجب التعويض . ويكون العقد الباطل ، في هذه الحالة أيضاً ، قد أنتج أثراً عرضياً ، لا باعتباره عقداً ، بل باعتباره واقعة مادية ( ) . 

المطلب الثاني 

الآثار الأصلية للعقد الباطل 

312 – لأي غرض يرتب العقد الباطل آثاره الأصلية : قد يرتب القانون في بعض الحالات على العقد الباطل آثاره الأصلية ، لا باعتباره واقعة مادية كما هو الأمر في الآثار العرضية ، بل باعتباره عقداً ، فيكون هو والعقد الصحيح بمنزلة سواء . وفي هذا خروج صريح على القواعد العامة ، يبرره أن هذه الحالات ترجع بوجه عام إلى فكرة حماية القانون للظاهر ( apparence ) لا سيما إذا اصطحب بحسن النية ( bonne foi ) ، وهذه رعاية واجبة لاستقرار التعامل . 

فالظاهر المستقر الذي اطمأنت إليه الناس في تعاملهم يبقى ي حماية القانون حتى لو خالف الحقيقة ، ويقوم كما لو كان هو الحقيقة ذاتها . هذا الأصل الجوهري من أصول القانون ، الذي تندرج تحته نظرية الإرادة الظاهرة ونظرية التصرف المجرد ونظرية الصورية في مختلف تطبيقاتها ، يمتد أيضاً ليشمل العقد الباطل فيرتب عليه آثاره الأصلية كما لو كان عقداً صحيحاً . 

313 – أمثلة من عقود باطلة ترتب آثارها الأصلية : ونورد بعض الأمثلة على ما قدمناه . فمن ذلك الشركة التجارية التي لم تستوف الإجراءات الواجبة قانوناً ، فإنها تقع باطلة ، ومع هذا فقد قضت المادة 54 من القانون التجارية بأنه إذا قضى ببطلان الشركة ، فإن تصفية حقوق الشركاء عن المعاملات التي تمت قبل طلب البطلان تجري وفقاً لشروط الشركة التي قضى ببطلانها . وهذا الحكم يجعل عقد الشركة الباطل ينتج آثاره الأصلية كما لو كان عقداً صحيحاً . ووجه ذلك أن الشركة التي قضى ببطلانها تعتبر في المدة السابقة على الحكم بالبطلان شركة واقعية ( societe de fait ) ، تنتج الآثار التي تنتجها الشركة الصحيحة ، ويعتبر تعامل الغير مع الشركة صحيحاً ، ويجني الشركاء الربح ويتحملون الخسارة ، ويقتسمون مال الشركة طبقاً للشروط التي اتفقوا عليها في العقد الباطل . 

ومنذ لك ما نصت عليه المادة 1034 من القانون الجديد من أنه " يبقى قائماً لمصلحة الدائن المرتهن الرهن الصادر من المالك الذى تقرر إبطال سند ملكيته أو فسخه أو إلغائه أو زواله لأى سبب آخر ، إذا كان هذا الدائن حسن النية فى الوقت الذى ابرم فيه الرهن " . ويتبين من هذا النص أن عقد الرهن الصادر من شخص لا يملك العقار المرهون – إذ أن سند ملكيته قد أبطل أو فسخ أو ألغى أو زال لأي سبب – يبقى بالرغم من بطلانه مترتباً عليه آثاره الأصلية ، ومن أهمها قيام حق الرهن لمصلحة الدائن المرتهن . 

وشبيه بذلك المالك إذا فسخ سند ملكيته ، فإن أعمال الإدارة التي صدرت من قبل الفسخ ، وبخاصة عقود الإيجار التي لا تزيد مدتها على ثلاث سنوات ، تبقى قائمة بالرغم من فسخ سند الملكية بأثر رجعي ، وذلك حماية لاستقرار التعامل في أعمال الإدارة . 

ويتصل بذلك العقد الصوري ، وهو عقد لا وجود له ، ومع ذلك يقوم بالنسبة إلى الغير حسن النية إذا تعامل على مقتضاه . وكالعقد الصوري تصرفات الوارث الظاهر ، فإنها تبقى رعاية لاستقرار التعامل ، وهناك تطبيقات أخرى كثيرة للمبدأ القاضي بأن الخطأ الشائع يقوم مقام القانون ( error communis facit jus ) .

author-img
مدونة المحامي اليمني عبدالرقيب محمد القاضي

تعليقات

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق
    google-playkhamsatmostaqltradent