الدكتور عبدالرزاق السنهوري
قد يسبق مرحلة التعاقد النهائي مرحلة تمهيدية تؤدي على وجه محقق أو غير محقق إلى المرحلة النهائية . وأبرز الصور لهذه المرحلة التمهيدية الوعيد بالتعاقد والاتفاق الابتدائي والعربون .
1 – الوعد بالتعاقد والاتفاق الابتدائي
الصور العملية للوعد بالتعاقد وللاتفاق الابتدائي : الوعد بالتعاقد كثير الوقوع في الحياة العملية : يتوقع شخص حاجته في المستقبل إلى ارض بجوار مصنعه أو منزله ، أو هو الآن في حاجة إليها ولكن لا يستطيع شراءها فوراً ، فيكتفي بالتعاقد مع صاحب هذه الأرض على أن يتعهد هذا ببيع الأرض له إذا أبدى رغبته في الشراء في مدة معينة ، فيتقيد صاحب الأرض بالعقد دون أن يتقيد به الطرف الآخر . يقوم المستأجر بإصلاحات هامة في العين المؤجرة ، ويحصل قبل قيامه بهذه الإصلاحات من المالك على وعد ببيع العين له إذا رغب شراءها في خلال مدة الإيجار حتى ينتفع بهذه الإصلاحات انتفاعاً كاملاً . يعد المالك من تسلم الشيء بشرط مذاقه أن يبيعه إياه إذا هو أعلن رغبته في الشراء في مدة معينة ، وهذا ما يسمى ببيع المذاق ( م 422 ) . يؤجر المالك العين ويشترط على المستأجر أن يشتريها إذا هو أبدى رغبته في البيع في خلال مدة الإيجار ، وهذا هو الوعد بالشراء يقابل الوعد بالبيع في الصور المتقدمة . يفتح مصرف حساباً جارياً لعميل قبل أن يقرضه شيئاً ، فيكون هذا وعداً من المصرف بالإقراض عندما يريد العميل أن يقترض . ويلاحظ في كل هذه الصور – الوعد بالبيع والوعد بالشراء والوعد بالإقراض – أن العقد ملزم لجانب واحد هو الواعد ، أما الموعود له فلم يلتزم بشيء .
على أن هناك صوراً أخرى للوعد بالتعاقد يكون فهيا ملزما للجانبين : يريد شخصان التعاقد ولكنهما لا يستطيعان ذلك فوراً . يمنعهما من ذلك مثلا إجراءات لا بد منها في إبرام العقد النهائي كاستخراج مستندات ضرورية أو الحصول على إذن من المحكمة الشرعية أو المحكمة الحسبية أو نحو ذلك . أو يمنعهما ضرورة الكشف عن العقار لتبين ما عسى أن يثقله من الحقوق العينية . أو يمنعهما أن هناك مصروفات كثيرة يقتضيها إبرام العقد النهائي وشهره وهما لا يستطيعان الاضطلاع بها في الحال ( ) . هذه بعض أمثلة من الموانع التي تحول دون إبرام العقد النهائي فوراً . ولكن المتعاقدين قد قرر قرارهما على إبرام العقد ، ويريدان التقيد به منذ الآن ، فيمضيان اتفاقاً ابتدائياً يعد كل منهما فيه الآخر بأن يمضي العقد النهائي في مدة تعين في الاتفاق . وهذا هو الاتفاق الابتدائي ، وهو وعد بالتعاقد ، ولكنه وعد ملزم للجانبين .
ولننظر الآن كيف ينعقد الوعد بالتعاقد ، في صورتيه الملزمة لجانب واحد والملزمة للجانبين ، وما الذي يترتب عليه من الآثار .
أ – كيف ينعقد الوعد بالتعاقد والاتفاق الابتدائي
133 – الوعد بالتعاقد والاتفاق الابتدائي ، عقد كامل لا مجرد إيجاب . ولكنه عقد تمهيدي لا عقد نهائي . وعلى هذين الأساسين ترتكز كل القواعد التي سنقررها في هذا الموضوع .
وأول ما يستخلص من ذلك أن الوعد بالتعاقد ، وكذلك الاتفاق الابتدائي ، وسط بين الإيجاب والتعاقد النهائي . وبيان هذا أن الواعد بالتعاقد – بالبيع مثلا – يلتزم بأن يبيع الشيء الموعود ببيعه إذا أبدى الطرف الآخر رغبته في الشراء . وهذا أكثر من إيجاب ، لأنه إيجاب قد اقترن به القبول فهو عقد كامل . ولكن كلا من الإيجاب والقبول لم ينصب إلا على مجرد الوعد بالبيع – أو على بيع تمهيدي في حالة الاتفاق الابتدائي – ولذلك يكون الوعد بالتعاقد ، وكذلك الاتفاق الابتدائي ، مرحلة دون التعاقد النهائي ، وهو خطوة نحوه .
134 – ما الذي يجب الاتفاق عليه في الوعد بالتعاقد والاتفاق الابتدائي : تنص الفقرة الأولى من المادة 101 من القانون المدني الجديد على أن " الاتفاق الذي يعد بموجبه كلا المتعاقدين أو إحداهما بإبرام عقد معين في المستقبل لا ينعقد ، إلا إذا عينت جميع المسائل الجوهرية للعقد المراد إبرامه ، والمدة التي يجب إبرامه فيها ( ) " . وهذا الحكم نتيجة منطقية من أن كلا من الوعد بالتعاقد والاتفاق الابتدائي هو خطوة نحو التعاقد النهائي ، فوجب أن يكون السبيل مهيأ لإبرام العقد النهائي بمجرد ظهور رغبة الموعود له في الوعد بالتعاقد الملزم لجانب واحد ، أو بمجرد حلول الميعاد في الاتفاق الابتدائي الملزم للجانبين .
والمسائل الجوهرية للعقد المراد إبرامه هي أركان هذا العقد . فإن كان بيعاً وجب أن يتفق الطرفان على المبيع والثمن ( ) . وإن كان شركة وجب أن يتفقا على المشروع المالي الذي تكونت من اجله الشركة وعلى حصة كل شريك . وإن كان مقايضة وجب أن يتفقا على الشيئين اللذين يقع فيهما التقايض؛ وهكذا . فإذا لم يتم الاتفاق على جميع هذه المسائل ، فإن الوعد بالتعاقد والاتفاق الابتدائي لا ينعقدان .
وتعيين المدة التي يجب في خلالها إبرام العقد الموعود به ضروري أيضاً لانعقاد الوعد بالتعاقد والاتفاق الابتدائي . وهذا التعيين قد يقع صراحة على مدة محددة أو قابلة للتحديد ، وقد يقع دلالة كما إذا كان العقد الموعود به لا يجدي تنفيذه بعد فوات وقت معين ، فهذا الوقت هو المدة التي يجب في خلالها إبرام هذا العقد . وإذا اتفق الطرفان على أن تكون المدة هي المدة المعقولة ، وكان في عناصر القضية ما ينهض لتحديد هذه المدة ، جاز الوعد بالتعاقد والاتفاق الابتدائي لأن المدة هنا تكون قابلة للتحديد ، وإذا اختلف الطرفان على تديدها تكفل القاضي بذلك .
135 – الوعد بالتعاقد والاتفاق الابتدائي في العقود الشكلية : وإذا كان العقد الموعود به عقداً شكلياً ، كالهبة والرهن الرسمي والشركة ، فإن الشكل الذي يعتر ركناً فيه – ورقة رسمية أو ورقة مكتوبة – يعتبر أيضاً ركنا في الوعد بالتعاقد وفي الاتفاق الابتدائي . وهذا ما تقضي به صراحة الفقرة الثانية من المادة 101 ، فهي تنص على أنه " إذا اشترط القانون لتمام العقد استيفاء شكل معين ، فهذا الشكل تجب مراعاته أيضا في الاتفاق الذي يتضمن الوعد بإبرام هذا العقد ( ) " .
فإذا لم يستوف الوعد بالتعاقد أو الاتفاق الابتدائي الشكل المطلوب وقع باطلا ( ) . فالوعد بالرهن الرسمي إذا لم يفرغ في ورقة رسمية كان باطلا ، ولا يجوز إجبار الواعد على تنفيذ وعده تنفيذاً عينياً بأن يجبر على إبرام الرهن الرسمين لأن هذا يقتضي تدخلا شخصياً من الواعد لإتمام رسمية الرهن ، وإجباره على هذا التدخل الشخصي ممتنع . ولا يجوز كذلك أن يقوم الحكم على الواعد بالتنفيذ مقام الرهن الرسمي لأن الوعد بالرهن باطل كما قدمنا ، ولانه لو جاز ذلك لأمكن بطريق ملتو أن يصل الطرفان إلى إبرام رهن رسمي دون ورقة رسمية ، إذ يقتصران على وعد بالتعاقد غير رسمي يصلان به إلى حكم يقوم مقام الرهن الرسمي .
ولكن يجوز أن يؤدي الوعد بالرهن الرسمي غير المفرغ في ورقة رسمية إلى النتيجة الآتية : يعتبر عقداً غير معين ثم بإيجاب وقبول وفقاً لمبدأ سلطان الإرادة ، وتب التزاماً شخصياً في ذمة الواعد . ولما كان هذا الالتزام يتعذر تنفيذه معيبنا ، فلا يبقى إلا التعويض يحكم به على الواعد ، ويجوز أن يؤخذ به حق اختصاص فيؤدي عملا إلى نتيجة قريبة من الرهن الرسمي . كما يجوز الحكم بسقوط اجل القرض الذي كان يراد ضمانه بالرهن ، وأخذ حق اختصاص بمبلغ القرض ( ) .
136 – شروط الانعقاد والصحة في العقد الموعود به ومتى تراعى في الوعد بالتعاقد والاتفاق الابتدائي : ولما كان الوعد هو خطوة نحو العقد النهائي ، فإن شروط هذا العقد من حيث الانعقاد والصحة قد تكون مطلوبة في عقد الوعد ذاته . ذلك أنه ، كما قدمنا ، لا يحول في الوعد دون الوصول إلى العقد النهائي إلا ظهور رغبة الموعود له إذا كان الوعد ملزماً لجانب واحد ، أو حلول الميعاد لإبرام العقد النهائي إذا كان الوعد ملزماً للجانبين ( أي اتفاقا ابتدائياً ) .
ويترتب على ذلك أن الوعد إذا كان ملزماً للجانبين ، فإن الأهلية المطلوبة لإبرام العقد النهائي في كل من الطرفين تكون مطلوبة أيضاً في الاتفاق الابتدائي . أما إذا كان الوعد ملزماً لجانب واحد ، فتقدر الأهلية بالنسبة إلى الواعد وقت الوعد ، فيجب أن يكون أهلاً للتعاقد النهائي في هذا الوقت حتى لو فقد الأهلية وقت التعاقد النهائي بأن حجر عليه مثلا ( ) . وعيوب الإرادة بالنسبة إلى الواعد تقدر وقت الوعد أيضاً لأنه لا يصدر منه رضاء بعد ذلك إذ أن التعاقد النهائي يتم بمجرد ظهور رغبة الموعود له . أما اهلاية الموعود له فتقدر وقت التعاقد النهائي لا وقت الوعد ، فيصح أن يكون قاصراً وقت الوعد بشرط أن تتوافر فيه الأهلية وقت ظهور رغبته ، ذلك لأنه ل يلتزم بشيء وقت الوعد وإنما يلتزم عند التعاقد النهائي . على أنه يجب أن تتوافر فيه أهلية التعاقد – أي التمييز – وقت الوعد لأن الوعد عقد كامل كما قدمنا وهو أحد طرفيه . أما عيوب الإرادة فتقدر بالنسبة إليه وقت الوعد ووقت التعاقد النهائي معاً ، إذ أنه يصدر منه رضاء في كل من هذين الوقتين ، فيجب أن يكون رضاؤه في كل منهما صحيحاً .
وسواء كان الوعد ملزماً لجانب واحد أو ملزماً للجانبين فإن مشروعية المحل والسبب يكفي توافرها وقت التعاقد النهائي ، حتى إذا لم تكن متوافرة وقت الوعد .
ب - الآثار التي تترتب على الوعد بالتعاقد والاتفاق الابتدائي
137 - مرحلتان يفصلهما حلول الميعاد أو ظهور الرغبة : إذا انعقد الوعد صحيحاً على النحو الذي قدمناه ، فإن الأثر الذي يترتب عليه يجب أن نميز فيه بين مرحلتين . فإذا كان الوعد ملزماً للجانبين ( اتفاقاً ابتدائياً ) فإن حلول الميعاد المضروب لإبرام العقد النهائي هو الذي يفصل ما بين هاتين المرحلتين . أما إذا كان الوعد ملزماً لجانب واحد فإن الذي يفصل بينهما هو ظهور رغبة الموعود له في التعاقد النهائي .
138 – قبل حلول الميعاد أو ظهور الرغبة : ففي المرحلة التي تسبق حلول الميعاد أو ظهور الرغبة لا يكسب الوعد إلا حقوقاً شخصية ولا يرتب إلا التزامات ، حتى لو كان التعاقد النهائي من شأنها أن ينقل حقاً عينياً كما في البيع .
يتبين ذلك في الاتفاق الابتدائي ( الوعد الملزم للجانبين ) ، فإن كلا من الطرفين يكون ملزما ًن في المرحلة التي تسبق حلول الميعاد المضروب لإبرام العقد النهائي ، بإبرام هذا العقد عند حلول الميعاد ، وهذا التزام بعمل . ويتبين ذلك أيضاً في الوعد الملزم لجانب واحد ، فإن الواعد وحده يترتب في ذمته التزام شخصي أن يقوم بوعده عند ظهور رغبة الموعود له ، وهذا أيضاً هو التزام بعمل ، أما الموعود له فلا يلتزم بشيء .
فإذا كان العقد النهائي المراد إبرامه هو عقد بيع ، وتم اتفاق ابتدائي ملزم للجانبين على عقده ، أو تم وعد ملزم لجانب واحد ، فإن الموعود له بالبيع في الحالتين لا يكسب في هذه المرحلة إلا حقاً شخصياً في ذمة الواعد ، ولا تنتقل إليه ملكية الشيء الموعود ببيعه . ويترتب على ذلك أمران لا يخلوان من أهمية عملية :
( أولاً ) يبقى الواعد مالكاً للشيء . فله أن يتصرف فيه إلى وقت التعاقد النهائي ، ويسرى تصرف الواعد في حق الموعود له متى توافرت الشروط المتعلقة بالشهر بالنسبة إلى العقار . فإذا باع العين وسجل البيع ، فليس للموعود له إلا الرجوع بتعويض على الواعد .
( ثانياً ) إذا هلك الشيء قضاء وقدراً تحمل الواعد تبعة هلاكه ، لا لأنه لم يسلمه إلى المتعاقد الآخر فحسب كما في العقد النهائي ، بل أيضاً لأنه لا يزال المالك . ولكنه لا يكون مسئولا عن الضمان نحو الموعود له إذ المفروض أن الشيء قد هلك قضاء وقدراً ( ) .
139 - بعد حلول الميعاد أو ظهور الرغبة : أما المرحلة الثانية فتحل . في الاتفاق الابتدائي الملزم للجانبين ، بحلول الميعاد المحدد لإبرام العقد النهائي . فإذا حل هذا الميعاد التزم كل من الطرفين بإجراء العقد النهائي ، وجاز إجباره على التنفيذ عيناً على النحو الذي سنبينه فيما يلي . ومتى وقع التعاقد النهائي التزم كل من المتعاقدين بأحكامه ( ) .,
وتحل المرحلة الثانية في الوعد الملزم لجانب واحد بظهور رغبة الموعود له في إبرام العقد الموعود به وذلك في خلال المدة المتفق عليها . فإذا لم تظهر هذه الرغبة قبل انقضاء المدة سقط الوعد بالتعاقد . أما إذا ظهرت ، صراحة أو ضمناً كأن تصرف الموعود له في الشيء الموعود ببيعه إياه . فإن التعاقد النهائي يتم بمجرد ظهور هذه الرغبة ولا حاجة لرضاء جديد من الواعد ( ) ويعتبر التعاقد النهائي قد تم وقت ظهور الرغبة لا من وقت الوعد .
وإذا اقتضى إبرام العقد النهائي تدخلا شخصياً من الواعد ، في حالتي الوعد الملزم للجانبين والوعد الملزم لجانب واحد ، كما إذا كان هذا العقد بيعاً واقعاً على عقار ولزم التصديق على إمضاء البائع تمهيداً للتسجيل ، فامتنع البائع عن ذلك ، جاز استصدار حكم ضده ، وقام الحكم متى حاز قوة الشيء المقضي مقام عقد البيع ، فإذا سجل انتقلت ملكية العقار إلى المشتري . ويستثنى من هذه القاعدة العقد الشكلي إذا لم يكن الوعد به قد استوفى الشكل المطلوب ، فقد قدمنا أن الحكم فيه لا يقوم مقام العقد ، بل يقتصر القاضي على الحكم بالتعويض . أما إذا كان الوعد بعقد شكلي قد استوفى الشكل الواجب ، فإن الحكم في هذه الحالة يقوم مقام العقد . وهذه الأحكام نص عليها القانون المدني الجديد صراحة في المادة 102 ، فهي تقضي بأنه " إذا وعد شخص بإبرام عقد ثم نكل وقاضاه المتعاقد الآخر طالبا تنفيذ الوعد ، وكانت الشروط اللازمة لتمام العقد وبخاصة ما يتعلق منها بالشكل متوافرة ، قام الحكم متي حاز قوة الشيء المقضي به مقام العقد ( ) " .
2 - العربون
( Les arrhes )
140 – العربون ودلالته في القوانين الأجنبية : يتفق أحياناً أن يدفع أحد المتعاقدين للأخر عند إبرام العقد مبلغاً من المال – يكون عادة من النقد – يسمى العربون . وأكثر ما يكون ذلك في عقد البيع وفي عقد الإيجار ، فيدفع المشتري للبائع أو المستأجر للمؤجر جزءاً من الثمن أو من الأجرة . ويكون غرض المتعاقدين من ذلك إما حفظ الحق لكل منهما في العدول عن العقد بأن يدفع من يريد العدول قدر هذا العربون للطرف الآخر ، وإما تأكيد العقد والبت فيه عن طريق البدء في تنفذه بدفع العربون .
وقد انقسمت القوانين الأجنبية بين هاتين الدلالتين المتعارضتين . فالقوانين اللاتينية بوجه عام تأخذ بدلالة العدول ( ) ، أما القوانين الحرمانية فتأخذ بدلالة البت ( ) . وغنى عن البيان أن كلتا الدلالتين قابلة لإثبات العكس ، فإذا تبين من اتفاق المتعاقدين أو من الظروف أن المقصود من العربون هو غير ما يؤخذ من دلالته المفروضة وجب الوقوف عند ما أراده المتعاقدان .
141 – العربون في القانون المدني القديم : لم يرد نص عن هذه المسألة في القانون المدني القديم ، فكان القضاء المصري يتردد بين الدلالتين ( ) . وكان في ذلك يأخذ بنية المتعاقدين ( ) . ويفسر هذه النية عند غموضها في ظل العرف الجاري . والظاهر أن العرف في مصر يميزيين البيع والإيجار . ففي البيع تكون دلالة العربون في العقد الابتدائي جواز العدول وفي العقد النهائي التأكيد والبت ( ) . أما في الإيجار فالعربون دليل على التأكيد والبت لا على جواز العدول ، ويعتبر تعجيلا لجزء من الأجرة تنفيذاً للعقد .
142 – العربون في القانون المدني الجديد : اخذ القانون المدني الجديد ، حسما للخلاف والتردد ، بدلالة جواز العدول . ومن هنا كان العقد المقترن بعربون مرحلة غير باتة في التعاقد النهائي ، إذ يجوز العدول عنه .
وقد نصت المادة 103 من القانون الجديد على ما يأتي :
1 - دفع العربون وقت إبرام العقد يفيد أن لكل من المتعاقدين الحق في العدول عنه ، إلا إذا قضي الاتفاق بغير ذلك .
2 - فإذا عدل من دفع العربون وقت ، فقده . وإذا عدل من قبضه ، رد ضعفه . هذا ولو لم يترتب على العدول أي ضرر ( ) " .
ويتبين من هذا النص أنه إذا دفع عربون وقت إبرام العقد ، ولم يتفق المتعاقدان صراحة أو ضمناً على أنه إنما دفع لتأكيد البتات في التعاقد ، كان دفعه دليلا على أن المتعاقدين ارادا أن يكون لكل منهما الحق في العدول عن العقد ، يستوى في ذلك البيع والإيجار وأي عقد آخر . فإذا لم يعدل أحد منهما عن العقد في خلال المدة التي يجوز له فيها العدول ، أصبح العقد باتاً ، واعتبر العربون تنفيذاً جزئياً له ، ووجب استكمال التنفيذ . أما إذا عدل أحد المتعاقدين عنه في المدة التي يجوز له فيها ذلك ، وجب على من عدل أن يدفع للطرف الآخر قدر العربون جزاء العدول . فإذا كان هو الذي دفع العربون فإنه يفقده ، ويصبح العربون حقاً لمن قبضه . أما إذا كان الطرف الذي عدل هو الذي قبض العربون ، فإنه يرده ويرد مثله ، أي يرد ضعفيه ( ) ، للطرف الآخر ، حتى يكون بذلك قد دفع قيمة العربون جزاء عدوله عن العقد . ويلاحظ أن النص يرتب التزاماً بدفع قيمة العربون في ذمة الطرف الذي عدل عن العقد ، لا تعويضاً عن الضرر الذي أصاب الطرف الآخر من جراء العدول ، فإن الالتزام موجود حتى لو لم يترتب على العدول أي ضرر كما هو صريح النص ، بل تفسيراً لنية المتعاقدين ، فقد فرض المشرع أن المتعاقدين أرادا إثبات حق العدول لكل منهما في نظير الالتزام بدفع قدر العربون فجعلا العربون مقابلا لحق العدول . وفي هذا يختلف العربون عن الشرط الجزائي ، فإن هذا الشرط تقدير اتفق عليه المتعاقدان لقيمة التعويض عن الضرر الذي ينشأ عن الإخلال بالعقد ، ومن ثم جاز للقاضي تخفيض هذا التقدير إذا كان مبالغاً فيه إلى درجة كبيرة ، بل جاز له إلا يحكم به أصلاً إذا لم يلحق الدائن أي ضرر . وسيأتي بيان ذلك عند الكلام في الشرط الجزائي ( ) .
أما إذا اتفق المتعاقدان صراحة أو ضمناً على أن دفع العربون إنما كان لتأكيد العقد لا لإثبات حق العدول ، وجبت مراعاة ما اتفقا عليه . فلا يجوز لأحد منهما العدول عن العقد ، ولكل منهما مطالبة الآخر بتنفيذه . ويعتبر العربون تنفيذا جزئياً يجب استكماله . وتجري على العقد الذي أبرم القواعد العامة التي تجري على سائر العقود من جواز المطالبة بالتنفيذ العيني أو بالتعويض أو بالفسخ . وإذا فسخ العقد وترتب على الفسخ تعويض ، فليس من الضروري أن يقدر التعويض بقدر العربون ، فقد يكون أكثر أو أقل بحسب جسامة الضرر .
إعلان منتصف المقال