يعنينا في تقرير بطلان العقد أن نبحث مسائل ثلاثا : ( 1 ) من الذي يتمسك ببطلان العقد . (2) وكيف يتقرر البطلان . ( 3 ) وما الأثر الذي يترتب على تقريرها .
المطلب الأول
من الذي يتمسك بالبطلان
325 – العقد الباطل والعقد القابل للإبطال : في العقد الباطل يجوز أن يتمسك بالبطلان كل من له مصلحة في ذلك ، بل وللمحكمة أن تقضي بالبطلان من تلقاء نفسها . أما في العقد القابل للإبطال ، فلا يتمسك بالبطلان إلا المتعاقد الذي تقرر البطلان لمصلحته دون المتعاقد الآخر ( ) .
ونفصل ما أجملناه .
1 - العقد الباطل
326 – النصوص القانونية : نصت الفقرة الأولى من المادة 141 على ما يأتي :
" إذا كان العقد باطلا جاز لكل ذي مصلحة أن يتمسك بالبطلان ، وللمحكمة أن تقضي به من تلقاء نفسها ولا يزول البطلان بالإجازة " ( ) .
وقد كان المشروع التمهيدي أوضح بياناً في تعيين ذوى المصلحة الذين لهم أن يتمسكو بالبطلان . فكانت المادة 194 من هذا المشروع تنص على أن " للمتعاقدين وللخلف العام والخاص وللدائنين التمسك بأوجه البطلان الواردة في المادة السابقة " .
327 - يتمسك بالبطلان كل ذي مصلحة وللمحكمة من تلقاء نفسها أن تقضي به : العقد الباطل لا وجود له كما قدمنا . وسنري أن بطلانه يتقرر عادة عن طريق الدفع ، وقد تقضي الضرورة العملية في بعض الحالات أن يكون تقرير البطلان عن طريق الدعوى . وسواء كان تقرير البطلان عن طريق الدفع أو عن طريق الدعوى ، فإن الذي يستطيع أن يتمسك بالبطلان هو كل شخص له مصلحة في ذلك ( ) .
والمصلحة هنا يراد بها حق يؤثر فيه صحة العقد أو بطلانه . ويترتب على ذلك أن مجرد المصلحة . دون قيام هذا الحق . لا يكفي . فلا يجوز مثلا أن يتمسك الجار ببطلان ببيع صدر من جاره لآخر بحجة أن له مصلحة في التخلص من الجوار المشتري الجديد . ولا يحق لتاجر أن يطلب تقرير بطلان شركة ليتخلص من منافستها له .
ولكن إذا كان صاحب المصلحة له حق يؤثر فيه بطلان العقد جاز له التمسك بالبطلان . ففي البيع الباطل يستطيع كل من المتعاقدين أن يتمسك بالبطلان : البائع حتى يسترد المبيع ، والمشتري حتى يسترد الثمن . ودائنو كل من البائع والمشتري لهم أن يتمسكوا بالبطلان ، لا بطريق الدعوى غير المباشرة فحسب ، بل أيضاً بطريق مباشر ، وذلك ليستردوا المبيع أو الثمن فينفذوا عليه بحقوقهم . وورثة كل من البائع والمشتري يتمسكون بالبطلان لرد المبيع أو الثمن إلى التركة ، ولذلك أيضاً بمقتضى حق مباشر لهم ، وكل شخص رتب له البائع أو المشتري حقاً عينياً أو حقاً شخصياً بالنسبة إلى العين المبيعة يجوز له أن يتمسك بالبطلان ، فالمرتهن من البائع يطلب البطلان حتى يسلم له حق الرهن ، والمرتهن من المشتري يطلب البطلان حتى يسترد الدين ، ومستأجر العين المبيعة من البائع يطلب البطلان حتى يبقى في العين ولو كان عقد الإيجار غير ثابت التاريخ ، ومستأجرها من المشتري يطلب البطلان حتى يسترد الأجرة . وكل هؤلاء يطلبون البطلان ، لا عن طريق استعمال حق مدينهم بالدعوى غير المباشرة . بل بمقتضى حق مباشر لهم .
فالذين يجوز لهم التمسك بالبطلان إذن هم المتعاقدان والدائنون والخلف العام والخلف الخاص .
بل للمحكمة أيضاً أن تقضي بالبطلان من تلقاء نفسها ، لأن العقد الباطل ليس له وجود قانونين ، والقاضي لا يستطيع إلا أن يقرر ذلك .
328 – متى يجوز التمسك بالبطلان : إذا كان التمسك بالبطلان عن طريق الدعوى ، فلا بد من رفعها في خلال خمس عشرة سنة من وقت صدور العقد ، وإلا سقطت بالتقادم ، أما إذا كان التمسك بالبطلان عن طريق الدفع ، فيجوز ذلك في أي وقت كما سبق القول ، ويجوز إبداء الدفع في أية حالة كانت عليها الدعوى ، كما يجوز إبداؤه لأول مرة أمام محكمة الاستئناف ( ) .
2 – العقد القابل للإبطال
329 – النصوص القانونية : نصت المادة 138 من القانون الجديد على ما يأتي :
" إذا جعل القانون لأحد المتعاقدين حقا في إبطال العقد فليس للمتعاقد الآخر أن يتمسك بهذا الحق " ( ) .
وقد كان المشروع التمهيدي يورد هذا النص على وجه يبين الحكمة فيه ، فكانت المادة 196 من هذا المشروع تنص على أنه " ليس لغير الأشخاص الذين تقرر البطلان النسبي لمصلحتهم أن يتمسكوا بأوجه البطلان الواردة في المادة السابقة " .
330 – لا يتمسك بالبطلان إلا المتعاقد الذي تقرر البطلان لمصلحته : العقد القابل للإبطال لم تتقرر قابليته للإبطال إلا لمصلحة أحد المتعاقدين . فهذا المتعاقد وحده ، دون المتعاقد الآخر ، هو الذي يجوز له أن يتمسك بالبطلان . فإذا كان سبب القابلية للإبطال نقص الأهلية ، فناقص الأهلية وحده هو الذي يتمسك بالبطلان ( ) . وإذا كان السبب هو عيب شاب الإرادة ، فمن شاب إرادته العيب هو الذي يتمسك بإبطال العقد . وفي بيع ملك الغير المشتري وحده هو الذي يتمسك بالبطلان .
ولا يستطيع أن يطلب إبطال العقد لا الدائن ولا الخلف العام ولا الخلف الخاص بمقتضى حق مباشر لهم ، ولكن يستطيعون ذلك باعتبارهم دائنين للمتعاقد ، فيستعملون حقه في طلب إبطال العقد عن طريق الدعوى غير المباشرة .
كذلك لا تستطيع المحكمة أن تقضي بإبطال العقد من تلقاء نفسها إذا لم تتمسك بالإبطال المتعاقد ذو المصلحة .
331 – متى يجوز التمسك بالبطلان : ويجوز التمسك بالبطلان ، دعوى أو دفعا ، ما دام البطلان لم يسقط بالتقادم بانقضاء المدة المقررة ، ثلاث سنوات من وقت زوال العيب أو خمس عشرة سنة من وقت نشوء العقد . ويجوز إبداء الدفع بالبطلان في أية حالة كانت عليها الدعوى على النحو الذي بيناه في العقد الباطل .
المطلب الثاني
كيف يتقرر البطلان
1 – العقد الباطل
332 – لا حاجة إلى حكم لتقرير البطلان : لما كان العقد الباطل ليس له وجود قانونين ، فلا حاجة إذن لصدور حكم بابطاله ، ولا ضرورة للحكم بالعدم على معدوم . وهذه نتيجة منطقية تستقيم في كثير من الأحوال ، فلا يحتاج من له مصلحة في تقرير البطلان أن يرفع دعوى بذلك ، وما عليه إلا أن يعتبر العقد الباطل معدوماً ، ويصدر في تصرفه عن هذا الاعتبار . فلو كان العقد الباطل بيعاً ، كان للبائع دون أن يحصل على حكم ببطلان البيع أن يتصرف في المبيع ، فهو لا يزال في ملكه ، ويكون بيعه صحيحا ًز وإذا رفع المشتري في هذا المثل دعوى يطالب فيها بالمبيع ، أمكن البائع أن يدفع هذه الدعوى ببطلان البيع .
فالذي يتمسك بالبطلان في العقد الباطل يفعل ذلك في أكثر الأحوال عن طريق الدفع لا عن طريق الدعوى .
333 – ولكن قد تقضي ا لضرورة ؟؟؟ بالحصول على حكم : وذلك يتحقق إذا قضت الضرورة على المتمسك ببطلان عقد باطل أن يبادر إلى رفع دعوى البطلان . ويعرض هذا في بعض فروض عملية . منها أن يكون البائع في بيع باطل قد سلم المبيع إلى المشتري ، وأراد أن سترده ، فهو بين أن يرفع دعوى البطلان في مدى خمس عشرة سنة أو يرفع دعوى الاستحقاق في أي وقت ، فإذا رفع دعوى البطلان حصل على حكم ببطلان العقد . ومنها أن يكون وجه البطلان فيها خفاء ، لا سيما إذا كان البطلان يرجع إلى تقدير القاضي كما إذا كان سببه مخالفة النظام العام أو الآداب ، ففي مثل هذه الحالة تدعو الضرورة من له مصلحة في التمسك بالبطلان أن يرفع دعوى بذلك حتى يطمئن إلى تقدير المحكمة فيما ذهب إليه .
والحكم الذي يصدر في دعوى البطلان لا يبطل العقد الباطل ، بل يقتصر على الكشف عن بطلانه .
2 – العقد القابل للإبطال
334 – لا يتقرر البطلان إلا بالاتفاق أو بالقضاء : أما العقد القابل للإبطال فله وجود قانونين إلى أن يتقرر بطلانه . ومن ثم لا بد في تقرير البطلان من التراضي أو التقاضي . أما التراضي فيتم بين المتعاقدين بشرط أن يتتوافر الأهلية في كل منهما . فإذا لم يتم الاتفاق على إبطال العقد ، فالعقد لا يبطل حتى يرفع ذو المصلحة من المتعاقدين دعوى البطلان ويحصل على حكم بذلك . وحكم القاضي هو الذي يبطل العقد ، أي ينشيء البطلان ، ولا يقتصر على الكشف عنه كما في العقد الباطل . ولكن إذا رفعت دعوى الإبطال ووجد سببه قائماً ، فالقاضي لا يملك إلا أن يبطل العقد ، وليس له حق التقدير الذي سنراه له في حالة الفسخ ( ) .
335 – فلا يتقرر بإرادة منفردة : ويتبين من ذلك أن المتعاقد ذا المصلحة إذا لم يستطيع الاتفاق مع المتعاقد الآخر على إبطال العقد ، فليس امامه إلا أن يرفع دعوى البطلان ليحصل على حكم بإبطال العقد . ولا يجوز له أن يستقل بإعلان البطلان بإرادته المنفردة ، كما أجاز لذلك كل من القانون الألماني وقانون الالتزامات السويسري ( ) . وقد كان المشروع النهائي للقانون الجديد يتضمن نصاً يجيز إبطال العقد في حالة نقص الأهلية عن طريق الإعلان بالإرادة المنفردة ، فكانت الفقرة الثانية من المادة 142 من هذا المشروع تنص على ما يأتي : " ويكفي لإبطال العقد بسبب نقص الأهلية إعلان المتعاقد الآخر بذلك إعلاناً رسمياً يبين فيه سبب البطلان وأدلته ، فإذا تم الإعلان على هذا الوجه اعتبر العقد باطلا من وقت صدوره ، دون إخلال بحق المتعاقد الآخر في التمسك بصحة العقد بدعوى يرفعها في خلال سنة من وقت وصول الإعلان " . وقد حذفت لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ هذا النص " توخياً لتعميم القواعد المتعلقة بطلب الإبطال ، وتجنباً لما يحتمل أن ينشأ عن تطبيق النص المقترح من صعوبات عملية " ( ) .
المطلب الثالث
اثر تقرير البطلان
336 - النصوص القانونية : نصت المادة 142 من القانون الجديد على ما يأتي :
" 1 - في حالتي إبطال العقد وبطلانه يعاد المتعاقدان إلى الحالة التي كانا عليها قبل العقد ، فإذا كان هذا مستحيلا جاز الحكم بتعويض معادل " .
" 2 - ومع ذلك لا يلزم ناقص الأهلية ، إذا أبطل العقد لنقص أهليته ، أن يرد غير ما عاد عليه من منفعة بسبب تنفيذ العقد " ( ) .
ويتبين من ذلك أن العقد الباطل أو القابل للإبطال ، إذا تقرر بطلانه ، يعتبر كأن لم يكن فيما بين المتعاقدين وبالنسبة إلى الغير . ونستعرض كلا من هاتين الحالتين .
1 – فيما بين المتعاقدين
337 - زوال كل اثر للعقد : إذا تقرر بطلان العقد زال كل اثر له ( ) ، وارجع كل شيء إلى أصله . وجاز الحكم بتعويض على أساس المسئولية التقصيرية لا المسئولية العقدية .
فإذا كان العقد بيعاً وتقرر بطلانه ، رد المشتري المبيع إلى البائع ، ورد البائع الثمن إلى المشتري . ويرد المشتري المبيع بثمراته من وقت المطالبة القضائية إذا كان حسن النية ، وفي مقابل ذلك لا يلتزم البائع بالفوائد عن الثمن الذي يرده إلا من وقت المطالبة القضائية كذلك . وهكذا يعاد المتعاقدان إلى الحالة التي كانا عليها قبل العقد . واسترداد كل متعاقد لما أعطاه إنما يكون على أساس استرداد ما دفع دون حق بعد أن تقرر بطلان العقد .
أما إذا أصبح الاسترداد مستحيلا بأن هلك المبيع مثلا في يد المشتري وبخ " ا منه ( ) ، حكم القاضي بتعويض معادل ، فألزم المشتري برد قيمة المبيع وقت الهلاك طبقاً لقواعد المسئولية التقصيرية لا على أساس العقد الذي تقرر بطلانه ، وألزم البائع برد الثمن على أساس دفع غير المستحق .
وإذا كان العقد زمنيا كالإيجار وتقرر بطلانه ، فالمنفعة التي استوفاها المستأجر قبل تقرير البطلان يجب أن يعوض عنها . وقد يقدر التعويض بمقدار الأجرة ولكنه لأي كون أجرة فلا يكفله حق الامتياز .
بقى أن نشير إلى حالتين خاصتين : ( 1 ) حالة عدم المشروعية ( 2 ) وحالة نقص الأهلية .
338 – حالة عدم المشروعية : ( * ) أشتمل المشروع التمهيدي للقانون الجديد على نص في هذا الصدد . فقضت الفقرة الثالثة من المادة 201 من هذا المشروع بأنه " لا يجوز لمن وفى بالتزام مخالف للآداب أن يسترد ما دفعه إلا إذا كان هو في التزامه لم يخالف الآداب " . فحذفت هذه الفقرة في المشروع النهائي " لا نها لا تتمشى مع منطق البطلان " . ذلك أن منطق البطلان تقضي في العقد الباطل ، أي أكان سبب البطلان ، بإعادة كل شيء إلى أصله ، فإذا كان أحد المتعاقدين سلم شيئاً للأخر تنفيذاً للعقد الباطل جاز له استرداده .
إلا أن قاعدة رومانية قديمة كانت لا تسلم بهذه النتيجة المنطقية في العقد الباطل لعدم المشروعية . فإذا سلم أحد المتعاقدين للأخر شيئاً تنفيذاً لعقد غير مشروع ، لم يكن له أن يسترد ما سلم إلا إذا كان عدم المشروعية غير ات من جهته . مثل ذلك شخص يعطي للأخر مالا ليرد له ما سرقه منه ، فيستطيع أن يسترد المال لأن عدم المشروعية غير ات من جهته . أما في الرشوة والاتصال الجنسي غير المشروع والمقامرة وما إلى ذلك ، فمن أعطى المال لا يستطيع أن يسترده ، لأن عدم المشروعة ات من جهته أو هو شريك فيه ، فهو طرف ملوث لا يجوز له أن يحتج بغش صدر من جانبه ( Nemo auditor propriam turpitudenem allegans ) . وقد احترم الفقه الفرنسي هذه القاعدة بادئ الأمر ( ) . ثم تحول عنها لأن المشرع الفرنسي لم ينقلها إلى نصوصه ( ) . أما القضاء الفرنسي فقد كان يحترمها كذلك ، ثم أخذ هو أيضاً يتحول عنها ، وأصبح الآن لا يطبقها إلا في العقود المخالفة للآداب ( ) .
ولا يزال القضاء المصري يحترم القاعدة ( ) ، ولم يخرج عليها إلا في الحكام قليلة ( ) .
وقد أخذت التقنينات الحديثة بالقاعدة الرومانية ، من ذلك التقنين الألماني ( م 817 ) وتقنين الالتزامات السويسري ( م 66 ) والمشروع الفرنسي الإيطالي ( م 27 فقرة 2 ) ( ) .
ومهما يكن من أمر فإن القاعدة الرومانية التي كانت أساساً لهذه الحركة الفقهية والقضائية والتشريعية هي قاعدة معيبة من الوجهتين المنطقية والعملية ، فمنطق البطلان يفضي بأن يكون الاسترداد جائزاً في كل الأحوال ، حتى لا يترتب اثر على العقد الباطل . وإذا كان الرومان يأبون الاسترداد على من كان ملوثاُ من الطرفين ، فذلك يرجع إلى خاصية في القانون الروماني قد زالت . وذلك أن العقد في هذا القانون كان يستمد قوته الملزمة من شكليته ، فإذا أعطى المتعاقد الذي سلم الشيء حق استرداده ، فلم يكن ذلك لأن العقد الشكلي غير ملزم ، بل كان عن طريق إعطاء المتعاقد دعوى خاصة ( condictio ob turpem causam ) ، من العدل أن تنكر على من كان ملوثاُ من الطرفين إذ لا يصبح جديراً بها . أما الآن فالوضع القانونين للمسالة قد يتغير ، وأصبح العقد غير المشروع ليست له قوة ملزمة حتى بالنسبة إلى الطرف الملوث ، ولم يعد هناك محل للنظر في إعطائه دعوى الاسترداد أو إنكارها عليه ما دام العقد غير ملزم له . والوجه العملي للمسالة ، كوجهها المنطقي ، يقضي هو أيضاً بأن يكون الاسترداد جائزاً في كل الأحوال . فما دام الغرض محاربة العقود غير المشروعة ، فلن يكون ذلك بمنع الطرف الملوث من استرداد ما سلمه لطرف ملوث مثله ، إذ يكون بقاء المال في يد هذا الطرف الآخر – كالموظف يستبقى الرشوة ، والمأجور على جريمة يستبقى الأجر – ابلغ في التشجيع على الفساد من سلبه إياه . وما على المجرمين إذن إلا أن يتعاملوا نقداً حتى يأمنوا غائلة القانون !!
لذلك أحسن القانون الجديد صنعاً في إغفاله النص الذي كان المشروع التمهيدي يشتمل عليه ، وقد حذف في المشروع النهائي كما قدمنا ، لأنه نص لا يتمشى مع منطق البطلان . وإذا كانت هناك أحوال تقتضي النظر ، فإن القواعد العامة تكفي في معالجتها ، كما إذا كان هناك ضرر أحدثه الطرف الذي يريد الاسترداد بالطرف الآخر . مثل ذلك شخص اتصل بامرأة اتصالا غير مشروع في مقابل مال أعطاه إياه ، وهو يريد الآن استرداد هذا المال . في مثل هذه الحالة لا نتردد في إنكار الاسترداد عليه ، وتستبقى المرأة المال ، ولا بمقتضى العقد فهو باطل لا ينتج أثراً ، ولا بمقتضى القاعدة الرومانية فهي قاعدة عتيقة لا يجوز الأخذ بها بعد أن زالت مقتضياتها ، بل على سبيل التعويض عن الضرر الذي أصاب المرأة من هذا الاتصال غير المشروع ( ) .
339 – حالة نقص الأهلية : وإذا كان العقد قابلا للإبطال لنقص أهلية أحد المتعاقدين ، وأبطل ، فإن ناقص الأهلية يسترد ما دفع تطبيقاً للقواعد التي قدمناها . أما المتعاقد الآخر فلا يسترد من ناقص الأهلية إلا مقدار ما عاد عليه من منفعة بسبب تنفيذ العقد ، كما تقول الفقرة الثانية من المادة 142 وقد تقدم ذكرها . والأصل في ذلك قاعدة عامة قررتها المادة 186 من القانون الجديد في دعوى غير المستحق ، إذ قضت بأنه " إذا لم تتوافر أهلية التعاقد فيمن تسلم غير المستحق فلا يكون ملتزماً إلا بالقدر الذي أثرى به " . وسيأتي بيان ذلك تفصيلا عند الكلام في حالة الوفاء لناقص الأهلية في دعوى غير المستحق .
2 - بالنسبة إلى الغير
340 – تأثر حق الغير بالبطلان : ولا يقتصر اثر البطلان على العلاقة اشتراها بعقد باطل أو قابل للإبطال حقاً عينياً ، رهناً أو حق ارتفاق مثلا ، ثم تقرر بطلان البيع ، فإن البائع يسترد العين خالية من الحقوق العينية التي رتبها المشتري . كذلك لو باع المشتري العين من آخر ، فإن البائع بعد تقرير البطلان يستردها من المشتري الثاني .
341 – وجوب تسجيل دعوى البطلان : على أن البائع في المثل المتقدم ، حتى يستوثق من الوصول إلى هذه النتيجة ، يجب عليه أن يسجل دعوى البطلان أو أن يؤشر بها على هامش تسجيل العقد الباطل . فقد نصت المادة 15 من قانون الشهر العقاري على أنه " يجب التأشير في هامش سجل المحررات واجبة الشهر بما يقدم ضدها من الدعاوى التي يكون الغرض منها الطعن في التصرف الذي يتضمنه المحرر وجوداً أو صحة أو نفاذاً ، كدعاوى البطلان أو الفسخ أو الإلغاء أو الرجوع ، فإذا كان المحرر الأصلي لم يشهر تسجل تلك الدعاوى " . وتنص المادة 17 من هذا القانون على أنه " يترتب على تسجيل الدعاوى المذكورة بالمادة الخامسة عشرة أو التأشير بها أن حق المدعى إذا تقرر بحكم مؤشر به طبق القانون يكون حجة على من ترتبت لهم حقوق عينية ابتداء من تاريخ تسجيل تلك الدعاوى أو التأشير بها . ولا يكون هذا الحق حجة على الغير الذي كسب حقه بحسن نية قبل التأشير أو التسجيل المشار إليهما " .
ويتبين من ذلك أن الغير إذا تلقى حقاً عينياً بعد تسجيل دعوى البطلان ، فإن حقه يزول بتقرير بطلان العقد ، سواء كان سيء النية أو كان حسن النية . أما إذا تلقى الحق العيني قبل تسجيل دعوى البطلان ، فالظاهر من نص المادة 17 أن حقه يزول إذا كان سيء النية ، ويبقى إذا كان حسن النية . ومهما يكن من أمر – وليس هنا مجال التفصيل في ذلك – فإن القانون أورد حكماً خاصاً لمصلحة الدائن المرتهن رهناً رسمياً ، فنص في المادة 1034 على أن " يبقى قائماً لمصلحة الدائن المرتهن الرهن الصادر من المالك الذي تقرر إبطال سند ملكيته أو فسخه أو الغاؤه أو زواله لأي سبب آخر ، إذا كان هذا الدائن حسن النية في الوقت الذي أبرم فيه الرهن " .
من كتاب الوسيط للدكتور عبدالرزاق السنهوري