الدكتور عبدالرزاق السنهوري
التمييز بين الخروج عن الحق والتعسف في استعمال الحق : كون الخطأ هو انحراف عن السلوك المألوف للرجل العادى . ويجب هنا أن نوجه النظر إلى تمييز جوهرى لا يلتفت إليه في العادة ، مع أنه في نظرنا هو الذي يضع نظرية التعسف في استعمال الحق في مكانها الصحيح .
ذلك أن الانحراف في السلوك قد يقع من الشخص وهو يأتي رخصة ، وقد يقع منه وهو يستعمل حقاً ، وليس هنا مجال الإفاضة في التمييز ما بين الرخصة والحق . وبحسبنا أن نقول إن الرخصة هي حرية مباحة في التصرف ، كالسير والتعاقد والتقاضى والكتابة والنشر ونحو ذلك من الحريات العامة التي كفلتها الدساتير للأفراد . أما الحق فهو مصلحة معينة مرسومة الحدود يحميها القانون فالملكية حق ، والتملك رخصة . ذلك أن القانون كفل لجميع الناس الحرية في أن يتملكموا طبقاً للقواعد التي قررها في أسباب الملك ، ومن ثم فالتملك رخصة فإذا ما كسب الشخص ملكية شيء معين بسبب من أسباب الملك ، انتقل من الرخصة إلى الحق ، وأصبح له مصلحة معينة مرسومة الحدود هي حق الملكية على هذا الشيء المعين الذي ملكه ، وهي مصلحة يحميها القانون ( ) .
وللرجل العادى في سلوكه المألوف إذا أتى رخصة يلتزم قدراً من الحيطة والتبصر واليقظة حتى لا يضر بالغير . وإذا استعمل حقاً فإنه لا يجاوز الحدود المرسوم لهذا الحق . فإذا ما انحرف شخص وهو يأتي رخصة – مشى أو تعاقد أو تقاضى أو كتب أو نشر – عن هذا السلوك المألوف من الرجل العادى ، فمشى بسيارته ولم يلتزم اليقظة اللازمة فدهس أحد المارة ، أو تعاقد مع أحد الفنيين الموظفين في مصنع منافس وحمله بذلك على أن يخل بالتزاماته نحو مصنعه ، أو تقاضى فتنكب سبيل الاعتدال وأمعن في الإضرار بخصمه باستعمال إجراءات التقاضى في غير ما وضعت له لدداً في الخصومة ، أو كتب فأفشى سراً من أسرار المهنة كان لا يجوز له إفشاؤه ، أو نشر فقذف شخصاً ، كان كل هذا خطأ يحقق مسئوليته . كذلك إذا استعمل حقاً معيناً – حق ملكية أو حق ارتفاق أو حق رهن أو حق دين - فجاوز الحدود المرسومة للحق الذي يستعمله ، بأن بنى في ملكه مجاوزاً حدود هذا الملك ، أو فتح المطل في المسافة الممنوعة قانوناً ، أو قيد الرهن بأكثر من الدين ، أو تقاضى فيما له من الدين فوائد أكثر مما يبيحه القانون ، كان كل هذا أيضاً خطأ يحقق مسئوليته .
وقد كان رجال الفقه في القرن الماضى يرون تقييد الرخصة ولا يرون تقييد الحق . فيشترطون في إتيان الرخصة ألا ينحرف الشخص عن السلوك المألوف للرجل العادى . أما الحق فلا يشترطون في استعماله إلا عدم مجاوزة حدوده . فكان الخطأ في نظرهم هو انحراف عن السلوك في إتيان الرخصة أو مجاوزة للحدود في استعمال الحق . أما إذا استعمل الشخص حقاً ولم يجاوز الحدود المرسومة لهذا الحق ، فإنه لا يخطئ ولو أضر بالغير . ومن ثم كان استعمال الحق مرهوناً بمدى حدوده . فإن جاوزها صاحب الحق كان هذا خروجاً عن الحق ، وهو خطأ يحقق مسئوليته . وإن التزمها فلا تتحقق مسئوليته ، حتى لو انحرف في استعمال الحق عن السلوك المألوف للشخص العادى فأضر بالغير .
فلا يشترط إذن في استعمال الحق عند رجال الفقه القديم إلا عدم مجاورة الحدود التي وضعت له . وما دام صاحب الحق داخل هذه الحدود فلا يرتكب خطأ مهما أضر بالغير ، ومهما كان مهملاً أو كان سيء النية . وهذه الصورة هي التي نظر فيها رجال الفقه الحديث . ورأوا خلافاً للفقه في الماضى أن المسئولية فيها يجب أن تتحقق وأطلقوا عليها اسماً معروفاً هو " التعسف في استعمال الحق " ( abusdu droit ) .
ومن ثم أصبح للخطأ صورتان : صورته الأولى وهي الخروج عن حدود الرخصة أو عن حدود الحق ، وصورته الجديدة وهي التعسف في استعمال الحق .
ونتناول كلاً من الصورتين في تطبيقاتها المختلفة .
$ - الخروج عن حدود الرخصة أو عن حدود الحق .
545 – من قاعدة عامة واحدة إلى حالات متعددة : رأينا أن هناك قاعدة عامة تقضى بأن كل خطأ يسبب ضرراً يوجب التعويض . وهذه هي السياسة التشريعية التي جرت عليها التقنينات اللاتينية . فهي لا تورد تطبيقات تفصيلية للخطأ ، بل تقتصر على وضع قاعدة عامة على النحو الذي أسلفناه . أما القوانين الأنجلوسكسونية والحرمانية فإنها تعمد إلى التفصيل ، وتتفاوت في إيراد الحالات التفصيلية للخطأ ( ) . ومن المعروف في القانون الإنجليزي أنه لا يشتمل على قاعدة عامة في الخطأ ، بل يحوي أنواعاً مختلفة من الخطأ يورد لكل نوع منها حكمه ، ومن ثم سمى هذا القسم من القانون الإنجليزي ، لا بقانون الخطأ ( Law of tort ) ، بل بقانون الأخطاء ( Law of torts ) .
على أن الفرق ليس بكبير كما يظهر لأول وهلة ما بين القوانين اللاتينية وبين القواعد الإنجليزية والحرمانية . فالثانية تعدد حالات الخطأ . ولكن يمكن أن يستخلص من هذه الحالات قاعدة عامة تتناول الخطأ في ذاته وتحدد أركانه أما الأولى فتبدأ بهذه القاعدة العامة ، ولكنها تنتهي في تطبيقها القضائي إلى حالات في الخطأ تعددها المحاكم حالة حالة وتبين خصائص كل حالة منها . فهناك إذن طوائف من الجرائم المدنية واضحة المعالم بينة الحدود ، شبيهة بالجرائم الجنائية التي يعددها قانون العقوبات .
وها نحن ، على سبيل المثال ، نتناول في إيجاز ، بعض هذه الحالات على النحو الذي انتهى إليه فيها قضاء المحاكم .
546 - حوادث النقل والسيارات والسكك الحديدية وغيرها من وسائل النقل : من الميادين التي يتسع فيها المجال لوقوع الخطأ حوادث النقل . فقد زادت أخطار النقل بقدر ما تعدد من وسائله وما امتد من نشاطه . ويقع كل يوم من حوادث النقل ما يوجب المسئولية . وهي حوادث متنوعة تنجم عن وسائل النقل المختلفة : من الدواب إلى المركبات إلى السيارات إلى السفن إلى الطائرات ، وفي البر والبحر والجو .
والنقل قد يكون بأجر أو بغير أجر . والنقل بأجر قد يكون نقلاً للأشياء أو نقلاً للأشخاص . ففي نقل الأشياء يلتزم عامل النقل بنقل ما عهد إليه في نقله سليماً إلى المقر المتفق عليه ، فإذا تلف في أثناء النقل كان عامل النقل مسئولاً ، والمسئولية هنا مسئولية عقدية لقيامها على التزام يترتب على عقد النقل ، فلا يستطيع عامل النقل أن يتخلص من المسئولية إلا إذا أثبت السبب الأجنبي وتجب المسئولية العقدية في رأينا المسئولية التقصيرية ، فلا خيرة بين المسئوليتين .
وفي نقل الأشخاص لم يكن القضاء الفرنسي في بادئ الأمر يرتب مسئولية عقدية . ثم انتهى إلى أن يستخلص من عقد النقل التزاماً بضمان سلامة الراكب ، وأصبح عامل النقل ملزماً بموجب العقد أن يصل بالراكب إلى المقر المتفق عليه سليماً معافى . والالتزام بضمان السلامة في نقل الأشخاص ، كما هو في نقل الأشياء ، التزام بتحقيق غاية . فإذا أصاب الراكب ضرر بسبب النقل كان عامل النقل مسئولاً مسئولية عقدية لا يستطيع الخلاص منها إلا بإثبات السبب الأجنبي ( ) .
وقد يكون النقل بغير أجر ( transport benevole, gratuit ) ، كأن يستصحب شخص صديقاً له في سيارته في نزهة أو إلى مكان معلوم ، فإذا أصيب الصديق بحادث من جراء ركوب السيارة ، فهل يكون صاحب السيارة مسئولاً ، وعلى أي أساس تقوم مسئوليته؟ نرى أن النقل في هذه الحالة ليس بعقد ، لأن الطرفين لم يقصدا أن يرتبطا ارتباطاً قانونياً ، وقد تقدم ذلك . فنستبعد إذن المسئولية العقدية ( ) . ولا تبقى إلا المسئولية التقصيرية . وهنا تنفتح أمامنا طرق ثلاثة : هل تكون هذه المسئولية هي مسئولية حارس الأشياء ، فيعتبر صاحب السيارة وهو الحارس لها مسئولاً نحو صديقه عن الضرر الذي أصابه حتى يقيم الدليل على السبب الأجنبي؟ ( ) أو تستبعد المسئولية على أساس الحراسة وتبقى في دائرة المسئولية القائمة على خطأ واجب الإثبات ، ونقول إن الصديق المضرور يجب أن يثبت خطأ في جانب صديقه صاحب السيارة؟ وإذا قلنا بذلك ، فأي نوع من الخطأ يجب أن يثبت؟ هل يجب أن يثبت خطأ جسيماً باعتبار أنه رضى بإخلاء مسئولية صديقه بعد أن تبرع هذا بنقله ، فلا يكون صاحب السيارة مسئولاً إلا عن الخطأ الجسيم؟ ( ) أو يكاد أن يثبت خطأ يسيراً طبقاً للقواعد العامة في المسئولية التقصيرية؟ ( ) أما المسئولية على أساس الحراسة فيجب استبعادها ، إذ شرطها ألا يكون المضرور قد اشترط مجاناً في استعمال الشيء الذي أحدث الضرر ( ) كذلك يجب استبعاد أن الصديق المضرور قد رضى بإخلاء مسئولية صاحب السيارة ، إذا حتى على فرض أن هذا صحيح فهو اتفاق على الإعفاء عن مسئولية تقصيرية وهو لا يجوز . فلا يبقى إذن إلا الطريق الثالث ، ويكون صاحب السيارة مسئولاً نحو صديقه المضرور إذا أثبت هذا خطأ يسيراً في جانبه وفقاً للقواعد العامة ( ) .
وهناك مسئولية تقصيرية أخرى تترتب على حوادث النقل إذا كان الضرر قد وقع لا على الراكب بل على المارة في الطريق . ومن الأمثلة المألوفة أن يقوم شخص سيارة ويسير بسرعة ينجم عنها الخطر ، أو أن يسير في الليل دون أن يوقد مصباح السيارة ، أو أن يسير على الجانب الأيسر من الطريق ( ) ، أو أن يدخل من شارع جانبى إلى شارع رئيسي دون أن ينتظر مرور السيارات التي تسير في الشارع الرئيسي ( ) ، أو أن يغفل تنبيه العابرة إلى خطر يتهددهم من سيارته ، أو أن يخالف لوائح المرور ونظمها ( ) . وكثيراً ما تقع الحوادث من قطارات السكك الحديدية ( ) والمركبات الكهربائية ( ) وغير ذلك من وسائل النقل المختلفة ( ) .
وهناك مسئولية تقصيرية أخرى تترتب على حوادث النقل إذا كان الضرر قد وقع لا على الراكب بل على المارة في الطريق . ومن الأمثلة المألوفة أن يقوم شخص سيارة ويسير بسرعة ينجم عنها الخطر ، أو أن يسير في الليل دون أن يوقد مصباح السيارة ، أو أن يسير على الجانب الأيسر من الطريق ( ) ، أو أن يدخل من شارع جانبى إلى شارع رئيسي دون أن ينتظر مرور السيارات التي تسير في الشارع الرئيسي ( ) ، أو أن يغفل تنبيه العابرة إلى خطر يتهددهم من سيارته ، أو أن يخالف لوائح المرور ونظمها ( ) . وكثيراً ما تقع الحوادث من قطارات السكك الحديدية ( ) والمركبات الكهربائية ( ) وغير ذلك من وسائل النقل المختلفة ( ) . ويلاحظ في كل ذلك أن المسئول عن الخطأ ، وهو السائق استعمل رخصة أباحها له القانون ، بأن اتخذ وسيلة من وسائل النقل المعروفة ، فانحرف في إتيان هذه الرخصة عن السلوك المألوف للرجل العادى ، وأضر بالغير ، فكان هذا خطأ يستوجب المسئولية . وسنرى أن المسئولية في أكثر هذه الأحوال ، بعد نفاذ القانون المدنى الجديد ، لا تبنى على خطأ واجب الإثبات ، بل على أساس حراسة الأشياء التي تتطلب حراستها عناية خاصة أو الآلات الميكانيكية ، فيكون الحارس مسئولاً عما تحدثه وسائل النقل من ضرر لم يثبت أن وقوع الضرر كان بسبب أجنبي لا يد له فيه ( م 178 من القانون المدنى الجديد ) ، وسيأتي تفصيل ذلك .
547 - حوادث العمل : وليست حوادث العمل بأقل من حوادث النقل بعد تقدم المخترعات الميكانيكية وشيوع الصناعات الكبرى . ولعل حوادث النقل وحوادث العمل هي أبلغ الحوادث أثراً في تطور المسئولية التقصيرية .
وقبل صدور قانون العمل رقم 64 لسنة 1936 ( وقد حل محله القانون رقم 89 لسنة 1950 ) كان القضاء المصرى لا يجعل صاحب العمل مسئولاً قبل العامل عن حوادث العمل إلا إذا أثبت العامل خطأ في جانب صاحب العمل ( ) .ولكنه كان يكتفي بإثبات أي إهمال ( ) ، ويوجب على صاحب العمل أن يتخذ الاحتياطات اللازمة حتى يحمي العمال من مخاطر العمل وإلا كان مسئولاً ( ) وتصبح مسئولية صاحب العمل أشد إذا كان العامل صبياً صغير السن ( ) . ولا يستطيع صاحب العمل أن يخفف باتفاق من مسئوليته التقصيرية ( ) . وهو مسئول عن خطأ تابعه ( ) . ولكن يجوز أن يتعهد بتعويض العمال تعويضاً مقدراً عن مخاطر العمل ( ) ، وترتفع مسئوليته إذا كان الضرر قد وقع بخطأ العامل نفسه ( ) .
وبعد أن صدر قانون رقم 64 لسنة 1936 ، ثم قانون رقم 89 لسنة 1950 الذي حل محله ، خضعت حوادث العمل لهذا التشريع الجديد ، ولم يعد يجوز للعامل فيما يتعلق بحوادث العمل أن يتمسك ضد رب العمل بأحكام أي قانون آخر ما لم يكن الحادث قد نشأ عن خطأ جسيم من جانب رب العمل ( ) .
548 – المسئولية عن الأخطاء الفنية في مزاولة المهنة : وكثيراً ما يخطئ رجال الفن من أطباء وصيادلة ومهندسين ومحامين وغير ذلك في مزاولة مهنهم فالطبيب قد يخطئ وهو يقوم بعملية جراحية ، وقد يخطئ الصيدلي في تركيب الدواء ، والمهندس في عمل التصميم الهندسي ، والمحامي في القيام بإجراءات التقاضى ومراعاة المواعيد المقررة لذلك .
وأول ما تجب ملاحظته في هذا الشأن أن مسئولية هؤلاء الفنيين تكون في أكثر الأحوال مسئولية عقدية لا مسئولية تقصيرية ، لأنهم يرتبطون بعقود مع عملائهم في تقديم خدماتهم الفنية ( ) . ولكن الخدمة الفنية التي يلتزمون بتقديمها بمقتضى العقد لا تزيد على أن تكون بذل عناية فنية معينة هي التي تقتضيها أصول المهنة التي ينتمون إليها . فالتزامهم بالعقد هو إذن التزام ببذل عناية لا التزام بتحقيق غاية . ومن ثم يتلاقى بالنسبة إليهم معيار المسئولية العقدية بمعيار المسئولية التقصيرية . فهم في المسئولية التقصيرية يطلب منهم أيضاً بذلك العناية الفنية التي تقتضيها أصول المهنة ، فإن هذا هو السلوك الفني المألوف من رجل من أوسطهم علماً وكفاية ويقظة . فالانحراف عن هذا المعيار ، سواء كانت المسئولية عقدية أو تقصيرية ، يعتبر خطأ مهنياً ( PROFESSIONNELLE ) وغني عن البيان ألا خيرة بين المسئوليتين ، فإذا كان الخطأ المهني عقدياً جبّ المسئولية التقصيرية . وإذا كان معيار الخطأ المهني واحداً في المسئوليتين ، فهناك فروق معروفة بين المسئولية العقدية والمسئولية التقصيرية تجعل انعدام الحيرة بين المسئوليتين ذا أهمية عملية .ونقتصر هنا على معيار الخطأ المهني ، وهو واحد في المسئوليتين كما قدمنا .
ذهب بعض الفقهاء في فرنسا إلى وجوب التمييز في مزاولة المهنة بين الخطأ العادي والخطأ المهني . فالخطأ العادي هو ما يرتكبه صاحب المهنة عند مزاولة مهنته دون أن يكون لهذا الخطأ علاقة بالأصول الفنية لهذه المهنة ، كما إذا أجرى الطبيب عملية جراحية وهو سكران . ومعيار الخطأ العادة هو معيار الخطأ المعروف : الانحراف عن السلوك المألوف للرجل العادى . أما الخطأ المهني فهو خطأ يتصل بالأصول الفنية للمهنة ، كما إذا أخطأ الطبيب في تشخيص المرض . ولا يسأل صاحب المهنة ، في نظر هؤلاء الفقهاء ، عن الخطأ المهني إلا إذا كان خطأ جسيماً ، حتى لا يقعد به الخوف من المسئولية عن أن يزاول مهنته بما ينبغي له من الحرية في العمل ومن الطمأنينة والثقة في فنه وفي كفايته الشخصية ( ) . وبهذا الرأي أخذ القضاء المختلط في بعض أحكامه ( ) .
والتمييز بين الخطأ العادى والخطأ المهني في مزاولة المهنة ، فوق أنه دقيق في بعض الحالات ، لا مبرر له . وإذا كان الطبيب أو غيره من الرجال الفنيين في حاجة إلى الطمأنينة والثقة ، فإن المريض أو غيره من العلماء في حاجة إلى الحماية من الأخطاء الفنية . والواجب اعتبار الرجل الفني مسئولاً عن خطئه المهني مسئوليته عن خطئه العادى ، فيسأل في هذا وذاك حتى عن الخطأ اليسير . وبهذا أخذ القضاء والفقه في فرنسا وفي مصر ( ) . والذي أدخل اللبس في شأن الخطأ المهني أن المعيار الذي يقاس به هذا الخطأ هو أيضاً معيار فني . فهو معيار شخص من أوساط رجال الفن . مثل هذا الشخص لا يجوز له أن يخطئ فيما استقرت عليه أصول فنه . والأصول المستقرة للفن هي ما لم تعد محلاً للمناقشة بين رجال الفن ، بل إن جمهرتهم يسلمون بها ولا يقبلون فيها جدلاً ( ) . ومن ثم يبدو الخروج على هذه الأصول المستقرة خطأ لا يغتفر ، ويكاد يلامس الخطأ الجسيم ، فاختلط به . ولكن يجب التنبيه إلى أن أي خروج على هذه الأصول المستقرة ، جسيماً كان هذا الخروج أو يسيراً ، يعد خطأ مهنياً يستوجب المسئولية . والشخص الفني الوسط الذي يؤخذ معياراً للخطأ المهني يجب ألا يتجرد من الظروف الخارجية ، وفقاً للقواعد المقررة في هذا الصدد فإذا كان طبيباً وجب النظر إلى أي طائفة من الأطباء ينتمى : هل هو طبيب يزاول الطب بصفة عامة ويعالج مرضى الحي من مختلف أنواع المرض ، أو هو أخصائي لا يعالج إلا نوعاً واحداً من المرض ، أو هو العالم الثقة الذي يرجع إليه في الحالات المستعصية . لكل من هؤلاء أجره ، ولكل مستواه المهني ، ولكل معياره الفني ( ) . وما يقال في الطبيب يقال في المحامي والمهندس والزراعى وغيرهم من رجال الفن .
549 – الاعتداء على الشرف والسمعة : وكثيراً ما يكون الخطأ اعتداء على الشرف والسمعة . وليس من الضروري أن يكون المعتدى سيء النية ، بل يكفى أن يكون أرعن متسرعاً ، وفي الرعونة والتسرع انحراف عن السلوك المألوف للشخص العادى ، وهذا خطأ موجب للمسئولية . والاعتداء على الشرف والسمعة يقع بطرق مختلفة .
يقع عن طريق النشر في الصحف بالسب والقذف ( ) . حتى لو انتفى سوء النية ما دامت هناك رعونة وعدم احتياط ( ) . ولكن يراعى عدم التشدد في اعتبار ما ينشر في الصحف سباً أو قذفاً في بعض الظروف التي تقتضى الإطلاق من حرية الصحابة من أجل المصلحة العامة ، وذلك كظروف الحرب ( ) ، وظروف الانتخابات ( ) ، وفي الحملات الصحفية التي تقوم لغرض التطهير من فساد منتشر ( ) ؛ وفي النقد العلمي والفني البرئ ( ) .
ويقع الاعتداء عن طريق البلاغ الكاذب . وليس سوء النية شرطاً في المسئولية التقصيرية كما هو شرط في المسئولية الجنائية . فقد يحفظ البلاغ الكاذب ويكون صاحب البلاغ مع ذلك مسئولاً مدنياً لأنه كان أرعن متسرعاً ولو أنه لم يكن سيء النية ( ) كما قد يكون صاحب البلاغ غير مسئول لا جنائياً ولا مدنياً لأنه لم يكن سيء النية ولم يرتكب رعونة أو تسرعاً ( ) . ويكفي لنفي التسرع والرعونة أن يتجمع لدى المبلغ من الدلائل ما يلقى في روعه صحة ما يبلغ عنه ولو لم يكن صحيحاً في الواقع . ويتخذ في هذا معيار موضوعي مجرد هو المعيار المعروف للخطأ . فلا يكفي أن تكون هذه الدلائل قد ألقت في روع المبلغ ذاته صحة ما بلغ عنه ، بل يجب أن يكون من شأن هذه الدلائل أن تلقى ذلك في روع الشخص العادى المجرد عن الظروف الداخلية التي تحيط بالمبلغ ( ) .
ويقع الاعتداء عن طريق دفاع في دعوى يتهم فيها الخصم خصمه أو يتهم الشهود أو الخبراء تهماً غير صحيحة تنطوي على الرعونة والتسرع ، حتى لو لم يكن الخصم سيء النية في هذا الاتهام ( ) .
ويقع الاعتداء عن طريق إذاعة أخبار غير صحيحة أو إشاعات كاذبة بمس سمعة شخص ، دون أن يصطنع المذيع الحيطة الواجبة للتثبت من هذه الأخبار والإشاعات قبل إذاعتها ( ) .
ويقع الاعتداء عن طريق إعطاء معلومات كاذبة ، بسوء نية أو عن رعونة ( ) . ولكن المصلحة التي تذكر أسباب فصل موظف من موظفيها بناء على طلب قدم لها في هذا الشأن لا تكون مسئولة ( ) . ولا يكون مسئولاً بوجه عام من أعطى معلومات عن الغير بحسن نية وبطريقة سرية وبناء على طلب معين ( ) .
550 – فسخ الخطبة والإغواء : والخطبة ، أو الوعد بالزواج ، ليست عقداً ملزماً ، لأنه لا يجوز أن يتقيد شخص بعقد أن يتزوج ، ومن باب أولى أن يتزوج من شخص معين ، فمثل هذا التقيد يكون مخالفاً للنظام العام . ولكن فسخ الخطبة أو الإخلال بالوعد بالزواج ، إذا لم يكن خطأ عقدياً ، قد يكون خطأ تقصيرياً يوجب التعويض ( ) . ومعيار الخطأ هنا هو المعيار المعروف ، فإذا انحرف الخطيب وهو يفسخ الخطبة عن السلوك المألوف للشخص العادى في مثل الظروف الخارجية التي أحاطت بالخطيب ، كان فسخ الخطبة خطأ يوجب المسئولية التقصيرية . والأصل أن فسخ الخطبة لا يجعل حقاً في التعويض إلا عن الضرر المادي ( ) . ولكن إذا سبقه استغواء فإنه يلزم بالتعويض عن الضرر الأدبي ( ) . على أنه إذا استسلم الخطيبان للضعف الجنسي ، فلا تعويض لا لضرر مادي ولا لضرر أدبي ، حتى لو كان هناك مشروع للزواج لم يتم ( ) . وإذا كان فسخ الخطبة بين خطيبين أحدهما قاصر ، فوالد الخطيبة هو المسئول إذا كان هو السبب في الفسخ ( ) .
هذه المبادئ الواضحة ، على وضوحها ، لم تستقر في القضاء المصري إلا بعد اضطراب وتأرجح . فقد صدرت أحكام من القضاء الوطني بنوع خاص ، تقضي بأن فسخ الخطبة لا يوجب التعويض إذ هو أمر مباح فلا سبيل إلى تحميل الحاطب الذي يعدل مسئولية عمل مشروع ، والقضاء ممنوع من تقييد المباحات العامة ، كما أن تحري العوامل التي دعت إلى فسخ الخطبة والظروف التي لابست هذا الفسخ يقتضي التدخل في أدق الشؤون الشخصية والاعتبارات اللصيقة بحرمات الناس ، هذا إلى أن الشريعة لم تحمل الزوج الذي يطلق قبل الدخول إلا خسارة نصف المهر الذي دفعه ، فكيف يصح إلزام الخاطب بتعويض قد يربو على ذلك إن هو عدل عن الخطبة! ( ) وفي الوقت ذاته صدرت أحكام أخرى ، من القضاء الوطني والقضاء المختلط ، تقضي بجواز التعويض عن فسخ الخطبة ، وبخاصة إذا سبق الفسخ استهواء أو سببت الخطبة مصروفات أو أخذت صورة واضحة من العلانية ذلك أن الحكمة في جواز العدول عن الخطبة هي تمكين طرفيها من تفادى الارتباط بزواج لا يحقق الغاية المرجوة منه ، فلا تحمى الشرائع عدولاً طائشاً لا يبرره مسوغ يقتضيه ،و خسارة نصف المهر في حالة الطلاق قبل الدخول ليست إلا مقابلاً للطلاق في ذاته مجرداً عن كل ظرف آخر يجعل منه فعلاً ضاراً موجباً للمسئولية المدنية ، ولا يستطيع القضاء أن يتخلى عن سلطته في تقدير الأفعال التي يترتب عليها إضرار أحد الخطيبين بالآخر ، سواء كان ذلك بسلوكه أثناء الخطبة أو بعدوله عنها بكيفية ضارة ، احتجاجاً بدقة تقدير مثل هذه الأمور الشخصية اللصيقة بالحرمات . فما كانت دقة النزاع لتصلح دفعاً بعدم اختصاص القضاء بنظره ، وليس أحق برعاية القضاء وإشرافه شيء أكثر من الأعراض والحرمات لمساسها بذات الإنسان ( ) . ثم إن الأحكام التي قضت بجواز التعويض ذهب بعضها إلى أن الخطبة عقد ملزم ، العدول عن الوفاء به يوجب التعويض ( ) . ولكن الكثرة الغالبة ذهبت إلى أن التعويض إنما يعطى على أساس المسئولية التقصيرية لا المسئولية العقدية ( ) .
والذي يمكن تقريره في هذا الشأن ، باعتبار أن القضاء قد استقر عليه ، هو ما يأتي : ( 1 ) الخطبة ليست بعقد ملزم . ( 2 ) مجرد العدول عن الخطبة لا يكون سبباً موجباً للتعويض . ( 3 ) إذا اقترن بالعدول عن الخطبة أفعال أخرى ألحقت ضرراً بأحد الخيطبين ، جاز الحكم بالتعويض على أساس المسئولية التقصيرية . وقد قررت محكمة النقض أخيراً هذه المبادئ في حكم لها جاء فيه ما يأتي : " إن الخطبة ليست إلا تمهيداً لعقد الزواج ، وهذا الوعد بالزواج لا يقيد أحداً من المتواعدين ، فلكل منهما أن يعدل عنه في أي وقت شاء ، خصوصاً وأنه يجب في هذا العقد أن يتوافر للمتعاقدين كامل الحرية في مباشرته لما للزواج من الخطر في شؤون المجتمع ، وهذا لا يكون إذا كان أحد الطرفين مهدداً بالتعويض . ولكن إذا كان الوعد بالزواج والعدول عنه ، باعتبار أنهما مجرد وعد فعدول ، قد لازمتهما أفعال أخرى مستقلة عنهما استقلالاً تاماً ، وكانت هذه الأفعال قد ألحقت ضرراً مادياً أو أدبياً بأحد المتواعدين ، فإنها تكون مستوجبة التضمين على من وقعت منه ، وذلك على أساس أنها هي في حد ذاتها – بغض النظر عن العدول المجرد – أفعال ضارة موجبة للتعويض ( ) " .
أما الإغواء ( seduction ) فلا يكون سبباً في التعويض إلا إذا اصطحب بالخديعة والغش أو اقترن بضغط أدبي ( ) . فإذا كانت ضحية الإغواء في سن تسمح بتدبر العواقب ، كان هذا سبباً في تخفيف التعويض ( ) . وإذا كانت العلاقة الجنسية نتيجة استسلام متبادل سكن إليه الطرفان ، ورضيت المرأة أن تكون خليلة على علم من أقاربها فلا تعويض ( ) . فإذا وعد الخليل خليلته بعد هجرها بالتعويض كان هذا قياماً بالتزام طبيعي ، بخلاف ما إذا كان هذا الوعد سابقاً على المعاشرة وقد قصد منه الإغراء فيكون باطلاً لعدم مشروعية السبب ، وقد تقدم بيان ذلك . وقد يكون الإغواء سبباً للتعويض . حتى لو كان الشاب قاصراً ، فإن المسئولية هنا تقصيرية لا عقدية ، والقاصر تجوز مساءلته تقصيرياً ( ) .
551 - حالات أخرى مختلفة في الخطأ التقصيري : وهناك ، عدا ما تقدم ، حالات أخرى مختلفة في الخطأ التقصيري توجب المسئولية ، منها الأعمال التي تترتب عليها مسئولية شركة المياه والغاز والنور ( ) . ومنها المنافسة التجارية غير المشروعة ، وتقع عادة بتقليد العلامات التجارية ( الماركات ) ، أو استعمال طرق احتيالية كاتخاذ اسم تجاري مقارب للاسم التجاري المزاحم . وقد تقع المنافسة غير المشروعة بإغراء عمال المتجر المزاحم على ترك متجرهم إلى المتجر الآخر . وتقع كذلك بنشر إشاعات كاذبة عن المتجر المزاحم ، وبالتشهير بعيوب هذا المتجر ، وغير ذلك من وسائل المنافسة غير المشروعة ( ) . ومنها الإجراءات القضائية الكيدية ( ) ، كالدعاوى والدفوع الكيدية ( ) ، ودعاوى الإفلاس الكيدية ( ) والتنفيذ الكيدي ( ) . ومنها المضار الفاحشة للجوار ( ) . وقد تترتب مسئولية الحكومة لأعمال تصدر من موظفيها مخالفة للقانون ( ) .
$ 2 التعسف في استعمال الحق ( )
( Abus du droit )
552 - مسائل ثلاث : قدمنا أن الخطأ يكون لا في الخروج عن حدود الرخصة فحسب ، ولا في الخروج عن حدود الحق فحسب ، بل أيضاً في التعسف في استعمال الحق . وقلنا إن رجال الفقه في القرن الماضي كانوا لا يرون أن الشخص يجوز عليه الخطأ وهو يستعمل حقه . ولكن نظرية التعسف في استعمال الحق – ولها جذور في أعماق الماضي السحيق – ما لبثت أن استقرت في العصر الحاضر ، وثبت عليها القضاء ، وسلم بها الفقه .
فنحن نتابع هذه النظرية : ( 1 ) في تطورها التاريخي إلى أن نصل بها إلى يومنا هذا لنراها مسجلة في تقنيننا المدني الجديد . ( 2 ) ثم نبحث على أي أساس تقوم النظرية ، وبأي معيار تأخذ . ( 3 ) ثم ننظر في حظها من التطبيق العملي في نواحي النشاط المختلفة .
1 - التطور التاريخي لنظرية التعسف في استعمال الحق :
553 - نظرية التعسف في استعمال الحق نظرية قديمة : ليست نظرية التعسف في استعمال الحق بالنظرية الجديدة أو المبتدعة ، بل هي نظرية قديمة عرفها الرومان ، وانتقلت إلى القانون الفرنسي القديم ، وتشبع يبها الفقه الإسلامي . ولكنها اختفت ردحاً من الزمن بعد أن ظهرت مبادئ الفردية ( individualisme ) وأمعنت الثورة الفرنسية في الأخذ بهذه المبادئ وبقيت مختفية طوال القرن التاسع عشر . لا تكاد تطول برأسها في بعض أحكام القصاء حتى يتنكر لها الفقهاء ، إلى أن قيض الله لها فقيهين من أعلام الفقه الفرنسي هما سالي ( Saleilles ) وجوسران ( josserand ) ، فنفضا عنها التراب ، وأعادا لها الجدة . فما لبثت أن استقرت في الفقه بعد أن ثبت عليها القضاء . ثم أخذت بها التقنينات الحديثة . وأصبحت اليوم نظرية ثابتة مستقرة لا يستطيع أحد أن يفكر تفكيراً جدياً في الانتفاض عليها .
554 – النظرية في القوانين القديمة : قلنا إن القانون الروماني عرف النظرية . يشهد بذلك ما أورده فقهاء هذا القانون من تطبيقات لها مختلفة . من ذلك أن قرر الفقيه إيلبيان ( ulpien ) أن من حفر بئراً في أرضه وتعمق في الحفر حتى قطع العروق النابعة في عين لجاره ، لا يكون مسئولاً عن تعويض هذا الضرر ولكنه يكون مسئولاً إذا كان التعمق في الحفر من شأنه أن يسقط حائط الجار . وقد توسع القانون البريطوري ( droit pretorien ) في تطبيق النظرية ، حتى يتخفف من حدة القانون القديم وصرامته ( ) .
وانتقلت النظرية إلى القانون الفرنسي القديم بعد إحياء دراسات القانون الروماني في العصور الوسطى . وذهب دوما ( Domat ) فيما يبدو إلى أن الشخص يكون متعسفاً في استعمال حقه إذا هو قصد الإضرار بالغير أو لم تكن له مصلحة في استعماله . وكان يرى أن من يباشر إجراءات التقاضى قد يتعسف في مباشرتها فتتحقق مسئوليته ( ) .
ولم يكن الفقه الإسلامي ، وهو الفقه المشبع بروح دينية سامية تنهي عن التعسف وتأمر بالرفق والإحسان ، بأقل توسعاً من القانون الروماني في الأخذ بنظرية التعسف في استعمال الحق ( ) بل إن القانون المدني الجديد قد حرص على أن ينتفع في صياغة النص الذي أورده في هذه النظرية بالقواعد التي استقرت في الفقه الإسلامي ، واستمد من هذا الفقه الضوابط التي اشتملت عليها النص ( ) .
555 - الثورة الفرنسية والتقنين المدني الفرنسي : كان هذا العهد مشبعاً بروح الفردية كما قدمنا ، ينادى بحقوق الإنسان ، ويجعل منها حقوقاً مطلقة مقدسة . فلم تكن هناك حدود جدية تقيد من حرية الإنسان في استعمال حقه ما دام لا يجاوز الحدود المادية لهذا الحق . فانتكصت النظرية في ذلك العهد وفيما تلاه من العهود طوال القرن التاسع عشر . ولم يتحدث عنها أحد من الفقهاء . وساعد على ذلك أن مبدأ تحريم التعسف في استعمال الحق ، إذا كان قد عرف منذ القديم في القانون الروماني وفي القانون الفرنسي القديم ، كان ينقصه أن يصاغ في نظرية فقهية شاملة تجمع شتاته . وهذا ما اضطلع به رجال الفقه في القرن العشرين .
556 - انتعاش النظرية في العصر الحاضر : كان للقضاء ثم للفقه في فرنسا الفضل في إحياء مبدأ تحريم التعسف في استعمال الحق ، فصوغ المبدأ في نظرية عامة شاملة ، ما لبثت أن استقرت وأصبحت من أمهات النظريات القانونية .
بدأ القضاء الفرنسي منذ النصف الأخير من القرن التاسع عشر يقرر المبدأ في كثير من الصراحة والوضوح . فهذه محكمة استئناف كولمار ( Colmar ) تقول في حكمها الصادر في 2 مايو سنة 1855 ( ) ، وقد أدانت مالكاً أقام فوق سطح منزله مدخنة غرضه الوحيد من إقامتها أن يحجب النور عن جاره ، ما يأتي : " ومن حيث إن المبادئ العامة تقضي بأ ، حق الملكية هو على وجه ما ( en quelque sorte ) حق مطلق يبيح للمالك أن ينتفع بالشيء ، وأن يستعمله وفقاً لهواه ( abuser ) . ولكن استعمال هذا الحق ، كاستعمال أي حق آخر ، يجب أن يكون حده هو استيفاء مصلحة جدية مشروعة ( interet serieux et legitime ) وأن مبادئ الأخلاق والعدالة لتتعارض مع تأييد القضاء لدعوى يكون الباعث عليها رغبة شريرة ( malveillance ) ، وقد رفعت تحت سلطان شهوة خبيثة ( mauvaise passion ) ، دعوى لا يبررها أية منفعة شخصية ( aucune utilite personnelle ) ، وهي تلحق بالغير أذى جسيماً ( grave prejudice ) " . وفي سنة 1871 قررت محكمة النقض الفرنسية المبدأ الآتي : " حتى يكون ثمة محل للتعويض يجب أن يكون هناك خطأ . والقانون لا يعتبر الشخص مخطئاً إذا هو عمل ما من حقه أن يعمله ، إلا إذا قصد بالعمل أن يؤذي الغير دون أن تكون له مصلحة في ذلك ( interet pour lui - meme pour nuire a autrui et sans ) ( ) " .
ولكن الفقه لم يتنبه إلى هذه الطلائع من أحكام القضاء الفرنسي إلا في أواخر القرن التاسع عشر . فكتب بعض الفقهاء في ذلك ( ) . على أن الفقيهين اللذين قادا الفقه في هذا الميدان ، في مستهل القرن العشرين ، هما كما قدمنا سالي وجوسران . واستأثر جوسران بالجولات الأولى والأخيرة ، فوضع منذ سنة 1906 مؤلفاً أسماه " التعسف في استعمال الحقوق " ( De l'abus des droits ) جمع فيه أحكام القضاء منسقة ، واستخلص منها أصول نظرية عامة في هذه المسألة ، على غرار نظرية سبقتها في القانون الإداري هي نظرية التعسف في استعمال السلطة ( detournement de pouvoir ) ( ) . ثم كتب في سنة 1927 مؤلفاً آخر أسماه " في روح الحقوق وفي نسبيتها – النظرية المسماة بنظرية التعسف في استعمال الحق " ( De l'esprite de droits et de leur relativite – theorie dite de l'abus des droits ) ، كان أشمل المؤلفات في هذه المسألة وأكثرها وضوحاً .
ولم تسلم النظرية من خصوم ، وأظهر من ناصب النظرية العداء هو بلانيول الفقيه الفرنسي المعروف ، وهو يذهب إلى أن التعسف في استعمال الحق إنما هو خروج عن الحق ، ويقول في ذلك : " ينتهى الحق حيث يبدأ التعسف ، ولا يمكن أن يكون ثمة تعسف في استعمال حق ما ، لسبب غير قابل لأن يدحض ، هو أن العمل الواحد لا يصح أن يكون في وقت معاً متفقاً مع القانون ومخالفاً له ( ) " . وظاهر أن النقد شكلي . إذ يكفي لرده أن نقول إن هناك نوعين من الخروج عن الحق : خروجاً صريحاً عن حدود الحق ، وخروجاً عن الحق بالتعسف في استعماله . ولا يتعرض بلانيول على امتداد المسئولية إلى هذا النوع الثاني ، وكل ما ينكره هو أن يسمى هذا تعسفاً في استعمال الحق ولا يسمى خروجاً عن الحق ، لأن التعسف في رأيه هو خروج عن حدود الحق . فالفرق إذن في التسمية لا في الحكم أما أن العمل الواحد لا يصح أن يكون في وقت معاً متفقاً مع القانون ومخالفاً له ، فهذا لا شك فيه . ولكن يصح أن يكون العمل الواحد متفقاً مع حدود الحق ، ويكون في الوقت ذاته مخالفاً للقانون ( ) .
ومهما يكن من أمر فإن الفقه ، منذ صاغ نظرية التعسف ونسق ما بين أجزائها ، أنار السبيل للقضاء ، فصار يمشي على هدى ، وكثرت الأحكام والتطبيقات القضائية لهذه النظرية الخطيرة . وهكذا أثر القضاء في الفقه ، ثم تأثر به . وما لبث المشرع الفرنسي أن سار هو أيضاً في هذا السبيل ، فسجل انلظرية في كثير من تشريعاته المتفرقة ( ) .
وقد أخذت النظرية مكاناً محترماً في التقنينات الحديثة ، حتى سما بها القانون المدني السويسري إلى الصدر من نصوصه ، ليجعل منها نظرية عامة تتمشى على جميع نواحي القانون ، ولم يقتصر على جعلها تطبيقاً من تطبيقات المسئولية التقصيرية تذكر في المكان الذي نص فيه على هذه المسئولية ( ) .
وانتقلت النظرية من الفقه والقضاء الفرنسيين إلى الفقه والقضاء المصريين في ظل القانون القديم . أما التشريع المصري فلم يكن يشتمل على نص عام في الموضوع ، وإن كان قد أشتمل على بعض نصوص تطبيقية ( ) .
ولكن القانون المدني الجديد احتفل بالنظرية ، وعنى بها عناية خاصة . فأحلها مكاناً بارزاً بين نصوصه ، وجعلها نظرية عامة مكانها الباب التمهيدي لا المسئولية التقصيرية ( ) .
557 – النصوص القانونية : نصت المادة 4 من القانون المدني الجديد على ما يأتي :
" من استعمل حقه استعمالاً مشروعاً لا يكون مسئولاً عما ينشأ عن ذلك من ضرر ( ) " .
ثم نصت المادة 5 على ما يأتي :
" يكون استعمال الحق غير مشروع في الأحوال الآتية :
" ( أ ) إذا لم يقصد به سوى الإضرار بالغير " .
" ( ب ) إذا كانت المصالح التي يرمى إلى تحقيقها قليلة الأهمية بحيث لا تتناسب البتة مع ما يصيب الغير من ضرر بسببها " .
" ( ج ) إذا كانت المصالح التي يرمى إلى تحقيقها غير مشروعة ( ) " .
ويلاحظ بادئ الأمر أن القانون المدني الجديد ، إذا كان قد آثر أن يضع هذه النصوص في الباب التمهيدي لتكون مبدأ من المبادئ الجوهرية التي تسود جميع نواحي القانون ، لم يرد بذلك أن يقيم المبدأ على غير أساسه القانوني . فالتعسف في استعمال الحق ليس إلا صورة من صورتي الخطأ التقصيري على النحو الذي قدمناه ، فيدخل بهذا الاعتبار في نطاق المسئولية التقصيرية ( ) .
558 - الأساس القانوني لنظرية التعسف في استعمال الحق : فالأساس القانوني لنظرية التعسف في استعمال الحق ليس هو إذن إلا المسئولية التقصيرية . إذ التعسف في استعمال الحق خطأ يوجب التعويض . والتعويض هنا ، كالتعويض عن الخطأ في صورته الأخرى وهي صورة الخروج عن حدود الحق أو عن حدود الرخصة ، يجوز أن يكون نقداً كما يجوز أن يكون عيناً . وليس التعويض العيني – كالقضاء بهدم المدخنة التي تحجب النور عن الجار – بمخرجه عن نطاق المسئولية التقصيرية ، فإن التعويض العيني جائز في الصورة الأخرى من الخطأ كما سنرى . ولا نحن في حاجة إلى القول بأساس مستقل للتعسف في استعمال الحق يتميز به عن المسئولية التقصيرية – كما ذهب بعض الفقهاء ( ) إلى ذلك – إذا نحن سلمنا بجواز الحكم بتهديد مالي في شأنه ( ) ، فإن التهديد المالي جائز في الالتزام الناشئ عن المسئولية التقصيرية جوازه في أي التزام آخر ( ) .
ويبقى التعسف داخلاً في نطاق المسئولية التقصيرية حتى لو كان تعسفاً متصلاً بالتعاقد ( ) . فالمؤجر الذي يتمسك بالشرط المانع من الإيجار من الباطن تعسفاً منه تتحقق مسئوليته التقصيرية .ويكون مسئولاً مسئولية تقصيرية كذلك من تعسف في إنهاء عقد جعل له الحق في إنهائه ، كعقد العمل أو عقد الشركة إذا لم تحدد المدة فيهما وكعقد الوكالة .
559 - معيار نظرية التعسف في استعمال الحق : فما هو إذن المعيار الذي يصلح اتخاذه لنظرية التعسف في استعمال الحق؟ هو دون شك المعيار عينه الذي وضع للخطأ التقصيري ، إذ التعسف ليس إلا إحدى صورتيه كما قدمنا . ففي استعمال الحقوق كما في إتيان الرخص يجب ألا ينحرف صاحب الحق عن السلوك المألوف للشخص العادي . فإذا هو انحرف – حتى لو لم يخرج عن حدود الحق – عد انحرافه خطأ يحقق مسئوليته .
غير أن الانحراف هنا لا يعتد به إلا إذا اتخذ صورة من الصور التي عددها نص القانون الجديد : 1 ) قصد الإضرار بالغير . 2 ) رجحان الضرر على المصلحة رجحاناً كبيراً . 3 ) تحقيق مصلحة غير مشروعة . ونبحث الآن هذه الصور واحدة بعد الأخرى .
560 - قصد الإضرار بالغير : المعيار هنا ، على الرغم من ذاتيته ، يمكن أن يندرج في المعيار الموضوعي العام للخطأ . فإنه لا يكفي أن يقصد صاحب الحق الإضرار بالغير ، بل يجب فوق ذلك أن يكون استعماله لحقه على هذا النحو مما يعتبر انحرافاً عن السلوك المألوف للشخص العادي . فقد يقصد شخص وهو يستعمل حقه أن يضر بغيره ، ولكن لتحقيق مصلحة مشروعة لنفسه ترجح رجحاناً كبيراً على الضرر الذي يلحقه بالغير . فقصد الإضرار بالغير في هذه الحالة لا يعتبر تعسفاً ، إذ أن صاحب الحق بهذا التصرف م ينحرف عن السلوك المألوف للشخص العادي . أما إذا كان قصد إحداث الضرر هو العامل الأصلي الذي غلب عند صاحب الحق وهو يستعمل حقه للإضرار بالغير ، اعتبر هذا تعسفاً ، ولو كان هذا القصد مصحوباً بنية جلب المنفعة كعامل ثانوي ، سواء تحققت هذه المنفعة أو لم تتحقق ويكون تعسفاً ، من باب أولى ، قصد إحداث الضرر غير المقترن بنية جلب المنفعة حتى لو تحققت هذه المنفعة عن طريق عرضي ، فلو أن شخصاً غرس أشجاراً في أرضه بقصد حجب النور عن جاره ، كان متعسفاً في استعمال حق الملكية حتى لو تبين فيما بعد أن هذه الأشجار قد عادت على الأرض بالنفع .
ويجب أن يثبت المضرور أن صاحب الحق وهو يستعمل حقه قصد إلى إلحاق الضرر به . ويثبت هذا القصد بجميع طرق الإثبات ، ومنها القرائن المادية . ولا يكفي إثبات أن صاحب الحق تصور احتمال وقوع الضرر من جراء استعماله لحقه على الوجه الذي اختاره ، فإن تصور احتمال وقوع الضرر لا يفيد ضرورة القصد في إحداثه ( ) .
بقى أن نعالج فرضاً كثير الوقوع في العمل ، هو ألا يقوم دليل قاطع على وجود القصد في إحداث الضرر ، ولكن الضرر مع ذلك . ويتبين أن صاحب الحق لم تكن له أية مصلحة في استعمال حقه على الوجه الذي أضر فيه بالغير . ونرى أن انعدام المصلحة هنا انعداماً تاماً قرينة على قصد إحداث الضرر ، كما يدل الخطأ الجسيم على سوء النية . ولكن هذه القرينة قابلة لإثبات العكس ( ) .
561 - رجحان الضرر على المصلحة رجحاناً كبيراً : المعيار هنا موضوعي . وهو محض تطبيق للمعيار الرئيسي في الخطأ ، معيار السلوك المألوف للرجل العادي . فليس من المألوف أن الرجل العادي يستعمل حقاً على وجه يضر بالغير ضرراً بليغاً ولا يكون له في ذلك إلا مصلحة قليلة الأهمية لا تتناسب البتة مع هذا الضرر . ويكون استعمال الشخص لحقه تعسفاً ، على حد ما جاء في النص ، " إذا كانت المصالح التي يرمى إلى تحقيقها قليلة الأهمية بحيث لا تتناسب البتة مع ما يصيب الغير من ضرر بسببها " . نقول ليس من السلوك المألوف للشخص العادي أن يفعل ذلك . ومن يفعل ، فهو إما عابث مستهتر لا يبالي بما يصيب الناس من ضرر بليغ لقاء منفعة ضئيلة يصيبها لنفسه ، وإما منطو على نية خفية يضمر الإضرار بالغير تحت ستار من مصلحة غير جدية أو مصلحة محدودة الأهمية يتظاهر أنه يسعى لها . وفي الحالين قد انحرف عن السلوك المألوف للشخص العادي ، وارتكب خطأ يوجب مسئوليته . . وقد طبق المشرع هذا المعيار ، إذ جاء في الفقرة الثانية من المادة 818 من القانون المدني الجديد ما يأتي : " ومع ذلك فليس لمالك الحائط أن يهدمه مختاراً دون عذر قوي إن كان هذا يضر الجار الذي يستتر ملكه بالحائط ( ) " .
562 – عدم مشروعية المصالح التي يرمي صاحب الحق إلى تحقيقها : والمعيار هنا هو أيضاً موضوعي ، وإن كان طريق الوصول إليه عاملاً ذاتياً هو نية صاحب الحق . وهو على كل حال تطبيق سليم لمعيار الخطأ . فليس من السلوك المألوف للشخص العادي أن يسعى تحت ستار أنه يستعمل حقاً له إلى تحقيق مصالح غير مشروعة . فرب العمل الذي يستعمل حقه في فصل عامل لأن التحق بنقابة من نقابات العمال ، والإدارة التي تفصل موظفاً إرضاء لغرض شخصي أو لشهوة حزبية ، والمالك الذي يضع أسلاكاً شائكة في حدود ملكه حتى يفرض على شركة طيران تهبط طائراتها في أرض مجاورة أن تشتري منه أرضه بثمن مرتفع ، ومؤجر العقار الذي يمتنع من الترخيص في الإيجار من الباطن لمشتري المصنع الذي أقيام على العقار بعد أن اقتضت الضرورة أن يبيع المستأجر هذا المصنع وذلك لا توقياً لضرر بل سعياً وراء كسب غير مشروع يجنيه من المشتري ( أنظر م 594 فقرة ثانية من القانون المدني الجديد ) – كل هؤلاء يتعسفون في استعمال حقوقهم ، لأنهم يرمون من وراء استعمالها إلى تحقيق مصالح غير مشروعة ( ) .
وقد آثر القانون الجديد هذا المعيار على معيارين آخرين شائعين في الفقه ، أحدهما معيار الغرض غير المشروع ( motif illegitime ) ، والثاني معيار الهدف الاجتماعي ( but social ) .
أما معيار الغرض غير المشروع فيتلخص في أن صاحب الحق يكون متعسفاً في استعمال حقه إذا كان الغرض الذي يرمي إليه غرضاً غير مشروع ( ) . وظاهر أن معيار " المصلحة غير المشروعة " خير من معيار " الغرض غير المشروع " . وإذا كان كلاهما يؤدي إلى نتيجة واحدة ، فإن معيار " المصلحة غير المشروعة " هو تعبير موضوعي عن المعنى الذاتي الذي ينطوي عليه معيار " الغرض غير المشروع " . فهو إذن أدق من ناحية الانضباط وأسهل من ناحية التطبيق ( ) .
ومعيار الهدف الاجتماعي يتلخص في أن الحقوق أعطاها القانون لأصحابها لتحقيق أهداف اجتماعية . فكل حق له هدف اجتماعي معين . فإذا انحرف صاحب الحق في استعمال حقه عن هذا الهدف ، كان متعسفاً وحقت مسئوليته وعيب هذا المعيار ، بالرغم من كونه موضوعياً ، هو صعوبة تحديد الهدف الاجتماعي لكل حق من الحقوق ، ثم خطر هذا التحديد . أما صعوبة التحديد فلأنه ليس من اليسير أن يرسم لكل حق هدف اجتماعي أو اقتصادي يكون منضبطاً إلى الحد الذي يؤمن معه التحكم ويتقي به تشعب الآراء . وأما خطر التحديد فلأن الهدف الاجتماعي هو الباب الذي ينفتح على مصراعيه لتدخل منه الاعتبارات السياسية والنزعات الاجتماعية والمذاهب المختلفة ، مما يجعل استعمال الحقوق خاضعاً لوجهات من النظر متشعبة متباينة ، وفي هذا من الخطر ما فيه . أما معيار " المصلحة غير المشروعة " فهو أبعد عن التحكم ، وأدنى إلى الاعتبارات القانونية المألوفة ( ) .
563 - معياران في المشروع التمهيدي حذفا في المشروع النهائي : وقد كان المشروع التمهيدي يضيف إلى المعايير الثلاثة المتقدمة معيارين آخرين :
( 1 ) التعارض مع مصلحة عامة جوهرية . وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : " والمعيار الثاني قوامه تعارض استعمال الحق مع مصلحة عامة جوهرية . وهذا معيار مادي استقاه المشروع من الفقه الإسلامي . وقننته المجلة من قبل إذ نصت في المادة 26 على أن الضرر الخاص يتحمل لدفع ضرر عام ( أنظر أيضاً المواد 27 و 28 و29 من المجلة ) . وأكثر ما يساق من التطبيقات في هذا الصدد عند فقهاء المسلمين يتعلق بولاية الدولة في تقييد حقوق الأفراد صيانة للمصلحة العامة . كمنع اختزان السلع تجنباً لاستغلال حاجة الأفراد إليها خلال الحروب والجوائح.