هناك اتصال بين الفسخ والمسئولية العقدية ، فكلاهما جزاء لعدم قيام المدين بتنفيذ التزامه العقدي . فإذا كان العقد ملزماً للجانبين جاز للدائن أن يطلب فسخ العقد جزاء عدم تنفيذ المدين لالتزامه كما قدمنا . وجاز له أيضاً أن يطالب بالتعويض ، ولكن لا على أساس فسخ العقد بل على أساس استبقائه والمطالبة بتنفيذه عن طريق التعويض ، وهذه هي المسئولية العقدية التي فصلنا أحكامها فيما تقدم .
على أنه إذا صح لأحد المتعاقدين أن يحاسب الآخر على عدم القيام بالتزاماته إما من طريق الفسخ وإما من طريق المسئولية العقدية ، فإن الطريق الأول مفتوح دائماً حيث يسد الطريق الثاني في بعض الأحوال . إذ يتفق أن يكون عدم قيام المدين بالتزامه إنما يرجع إلى سبب أجنبي لا يد له فيه . فتنتفي مسئوليته العقدية ، ولكن يبقى الفسخ ، بل إن العقد في هذه الحالة ينفسخ بحكم القانون كما سنرى .
463 – أساس نظرية الفسخ : وليست نظرية الفسخ بالنظرية التي تبده العقل القانوني ، فسلم بها بادئ ذى بدء ، بل هو ثمرة تطور طويل . فقد كان القانون الروماني يأبى التسليم بها . وكان العقد الملزم للجانبين في هذا القانون ينشيء التزامات مستقلة بعضها عن بعض ، ولا تقابل بينها ، كما قدمنا في نظرية السبب . فإذا لم يقم أحد المتعاقدين بتنفيذ التزامه ، لم يكن أمام المتعاقد الآخر إلا أن يطالب بالتفنيذ ، ولا يستطيع أن يتحلل هو من التزامه عن طريق الفسخ . ولكن الرومان بعد تطور افسحوا لفكرة الفسخ مجالا ضيقاً في قعد البيع بعد أن أصبح هذا العقد رضائياً . فأدخلوا فيه شرطاً صريحاً يجعل الحق للبائع في فسخ البيع إذا لم يدفع المشتري الثمن ( ) . وفي الفقه الإسلامي لا يعرف الفسخ نظرية عامة ، وإنما أعطى للبائع خيار النقد كشرط لفسخ البيع إذا لم يستوف الثمن . وكذلك فعل فقهاء القانون الفرنسي القديم ، فقالوا بجواز الفسخ حتى لو لم يوجد شرط صريح ، ولكن الفسخ كان لا يتم إلا بحكم قضائي . وساعد على ذلك ظهور نظرية السبب في القانون الكنسي على النحو الذي قدمناه ، وقد ربطت فكرة السبب مابين الالتزامات المتقابلة في العقد الملزم للجانبين ، لا عند تكوين العقد فحسب ، بل أيضاً عند تنفيذه ومن ثم يكون الفسخ . ثم أخذت فكرة الارتباط ما بين الالتزامات المتقابلة تبرز بوضوح على أيدى فقهاء القانون الطبيعي حتى أصبحت أمراً مسلماً ، وقامت نظرية الفسخ على أساسها . ولكن القانون المدني الفرنسي عندما نقل قاعدة الفسخ نقلها متأثرة بالصياغة الرومانية ، فذكر في المادة 1184 على أن الشرط الفاسخ مفهوم مضناً في العقود الملزمة للجانبين في حالة ما إذا لم يقم أحد المتعاقدين بما في ذمته من التزام . وهو لم يرد بهذا أكثر من أن يقرر القاعدة التي تقضي بجواز فسخ العقد إذا لم يقم المدين بالتزامه . أما ذكر الشرط الفاسخ فهو مجرد تشبيه حملته عليه الاعتبارات الترايخية التي قدمناها .
وليس صحيحاً أن أساس الفسخ هو نظرية الشرط الفاسخ الضمني . ولو صح هذا لترتب عليه أن بمجرد عدم قيام المدين بالتزامه يتحقق الشرط فينفسخ العقد من تلقاء نفسه . وهذا غير صحيح لأن الفسخ لا يكون إلا بحكم قضائي أو باتفاق ، وللقاضي حق التقدير فيجيب طلب الفسخ أو يرفضه ، وللمدين أن يقوم بتنفيذ العقد فيتوقى الحكم بالفسخ ، وللدائن أن يعدل عن المطالبة بفسخ العقد إلى المطالبة بتفنيذه ، كل ذلك على النحو الذي سنبينه فيما يلي ( ) .
ولا نميل إلى اتخاذ نظرية السبب أساساً لنظرية الفسخ ، كما تذهب جمهرة الفقهاء . ونؤثر ، كما بينا في نظرية السبب ، أن نجعل نظرية الفسخ مبينة على فكرة الارتباط ( interdependence ) ما بين الالتزامات المتقابلة في العقود الملزمة للجانبين ، إذ أن طبيعة هذه العقود تقتضى أن يكون التزام أحد المتعاقدين مرتبطاً بالتزام المتعاقد الآخر فيبدو أمراً طبيعياً عادلا أنه إذا لم يقم أحد المتعاقدين بالتزامه ، جاز للمتعاقد الآخر اني وقف هو من جانبه تنفيذ ما في ذمته من التزام ، وهذا هو الدفع بعدم التنفيذ ، أو أن يتحلل نهائياً من هذا الالتزام ، وهذا هو الفسخ ( ) .
464 – خطة البحث : والفسخ يكون بحكم القاضي ، وهذا هو الأصل . وقد يكون باتفاق المتعاقدين . ويكون في بعض الأحوال بحكم القانون ويسمى عند ذلك انفساخاً .
فنحن نبحث : ( 1 ) فسخ العقد بحكم القضاء ( 2 ) فسخ العقد بحكم الاتفاق ( 3 ) انفساخ العقد بحكم القانون .
المبحث الأول
الفسخ بحكم القضاء
465 – مسائل ثلاث : نتكلم في مسائل ثلاث : ( 1 ) شروط المطالبة بالفسخ ( 2 ) كيف يستعمل حق الفسخ ( 3 ) ما يترتب على الفسخ من أثر .
المطلب الأول
شروط المطالبة بالفسخ
466 – النصوص القانونية : نصت المادة 157 من القانون المدني الجديد على ما يأتي :
" 1 - في العقود الملزمة للجانبين ، إذا لم يوف أحد المتعاقدين بالتزامه جاز للمتعاقد الأخر بعد أعذاره المدين أن يطالب بتنفيذ العقد أو بفسخه ، مع التعويض في الحالتين إن كان له مقتض " .
" 2 - ويجوز للقاضي أن تمنح المدين أجلا إذا اقتضت الظروف ذلك ، كما يجوز له أن رفض الفسخ إذا كان ما لم يوف به المدين قليل الأهمية بالنسبة إلى الالتزام في حملته ( ) " .
ولم يستحدث القانون الجديد شيئاً في هذا الموضوع . وقد كان القانون القديم ينص في المادتين 117 / 173 على ما يأتي : " إذا امتنع المدين من وفاء ما هو ملزم به بالتمام ، فللدائن الخيار بين أن يطلب فسخ العقد مع اخذ التضمينات ، وبين أن يطلب التضمينات عن الجزءا الذي لم يقم المدين بوفائه فقط " .
على أن نص القانون الجديد أكثر احاطة بالموضوع وأوضح بياناً . ومنه يتبين أن هناك شروطاً ثلاثة يجب توافرها حتى يثبت للدائن حق المطالبة بفسخ العقد ، اثنين منها يصرح بهما النص ، والشرط الثالث تقتضيه طبيعة المطالبة بالفسخ . وهذه الشروط هي : ( 1 ) أن يكون العقد ملزماً للجانبين ( 2 ) إلا يقوم أحد المتعاقدين بتنفيذ التزامه ( 3 ) أن يكون المتعاقد الآخر الذي يطلب الفسخ مستعداً للقيام بالتزامه من جهة ، وقادراً على إعادة الحال إلى أصلها إذا حكم الفسخ من جهة أخرى .
1 - لا يكون الفسخ إلا في العقود الملزمة للجانبين
467 – العقود الملزمة للجانبين هي وحدها التي يرد عليها الفسخ بمجميع أنواعه ، القضائي والاتفاقي والقانون : أن يكون العقد ملزماً للجانبين هو شرط عام في جميع أنواع الفسخ ، سواء كان الفسخ بحكم القاضي أو بحكم الاتفاق أو بحكم القانون . ذلك أن الفسخ ، بأنواعه الثلاثة ، مبنى على فكرة الارتباط ما بين الالتزامات المتقابلة كما قدمنا . وليس يوجد إلا العقود الملزمة للجانبين التي ينشأ عنها التزامات متقابلة . فهي وحدها التي تتوافر فيها حكمة الفسخ .
وقد قدمنا عند الكلام في تقسيم العقد إلى عقد ملزم للجانبين وعقد ملزم لجانب واحد أن بعض العقود التي كانت تعتبر عقوداً ملزمة لجانب واحد في عهد القانون المدني القديم ، كالعارية والقرض ورهن الحيازة ، يرد عليها الفسخ . وقدمنا أن الفقهاء اختلفت في أمر هذه العقود مذاهب شتى . فمنهم من ينكر فيها حق الفسخ . ومنهم من يقره ولكن يسميه اسقاطاً ( decheance ) لا فسخاً ( resolution ) . ومنهم من يقره على أنه فسخ ويذهب إلى أن حق الفسخ يكون في العقود الملزمة لجانب واحد . وعندنا أن الفسخ جائز في هذه العقود لأنها عقود ملزمة للجانبين حتى في عهد القانون المدني القديم ، وقد سبق لنا بيان ذلك .
أما العقود التي لا يمكن أن تكون إلا ملزمة لجانب واحد ، كالوديعة والكفالة إذا كانتا بغير أجر والهبة إذا كانت بغير عوض ، فقد قدمنا أنه لا يمكن تصور الفسخ فيها ، فإن طرفاً واحداً هو الملتزم ، فإذا لم يقم بتنفيذ التزامه لم يكن للطرف الآخر أية مصلحة في طلب الفسخ إذ ليس في ذمته أي التزام يتحلل منه بالفسخ ، بل مصلحته هي في أن يطلب تنفيذ العقد .
468 – وكل العقود الملزمة للجانبين برد عليها الفسخ : وإذا كانت العقود الملزمة للجانبين هي وحدها التي يرد عليها الفسخ من جهة أخرى يرد عليها جميعاً . وسنرى أن العقد الزمني يرد عليه الفسخ باثر يختلف عن أثر الفسخ في العقد الفوري .
وقد كان القانون المدني القديم يستثنى عقداً واحداً ملزماً للجانبين يمنع فيه الفسخ هو عقد الايراد المرتب مدى الحياة . فكانت المادتان 480 / 588 تنصان على أنه " يجوز لصاحب الايراد في حالة عدم الوفاء أو عدم أداء التأمينات أو إعدامها أو إظهار إفلاس المدين بالايراد أن يتحصل فقط على بيع أموال هذا المدين وتخصيص مبلغ من أثمانها كاف لأداء المرتبات المتفق عليها " ( ) . فالدائن صاحب الايراد لا يجوز له أن يطلب فسخ العقد إذا اخل المدين بالتزامه ، وليس له إلا المطالبة بالتفنيذ العيني ، فيبيع من أموال المدين ما يكفي ريع ثمنه لأداء المرتب المتفق عليه . وقد كنا انتقدنا هذا النص في عهد القانون القديم ( ) ، ورأيناه نصاً غريباً يخرج على القواعد العامة دون سبب ظاهر . وقد نقله المشرع المصري عن المشروع الفرنسي ( ) . ومن أجل ذلك ورد القانون المدني الجديد قاطعاً في هذه المسألة ، وقد رد عقد الايراد المرتب مدى الحياة إلى القواعد العامة ، ولم يمنع فيه الفسخ ، فنصت المادة 746 على أنه " إذا لم يقم المدين بالتزامه ، كان للمستحق أن يطلب تنفيذ العقد ، فإن كان العقد بعوض جاز له أيضاً أن يطلب فسخه مع التعويض إن كان له محل " .
وذهب القضاء الفرنسي إلى أن عقد القسمة لا يجوز فيه طلب الفسخ إذا لم يقم أحد المتقاسمين بتنفذ التزامه من الوفاء بمعدل القسمة مثلا ، وإنما يطالب المتقاسم الذي اخل بالتزامه أن ينفذ هذا الالتزام . ويريد القضاء الفرنسي من ذلك أن يحافظ على مصلحة بقية المتقاسمين الذين يضرهم نقض القسمة بالفسخ ( ) . وهذا القضاء أيضاً محل للنظر . والأولى أن يترك الأمر لتقدير القاضي ، وهو الذي يغلب المصلحة الراجحة فيقضي بالفسخ أو لا يقضي ، وهذه هي القاعدة العامة في الفسخ فلا محل لاستثناء عقد القسمة منها ( ) .
2 - لا يكون الفسخ إلا إذا لم يقم أحد المتعاقدين بتنفيذ التزامه
469 – عدم التنفيذ يرجع إلى سبب أجنبي : إذا كان عدم التنفيذ يرجع إلى استحالته لسبب أجنبي ، فإن التزام المدين ينقضي فينقضي الالتزام المقابل له ، وينفسخ العقد بحكم القانون . وهذا ما سنعرض له بعد قليل .
ومن ذلك نرى أنه إذا أصبح التنفيذ مستحيلا لسبب أجنبي خرجنا من نطاق الفسخ إلى نطاق الانفساخ ( ) .
470 – عدم التنفيذ يرجع إلى فعل المدين : فيجب إذن أن يكون عدم التنفيذ راجعاً إلى غير السبب الأجنبي ، بان يكون التنفيذ العيني أصبح مستحيلا بفعل المدين ، أو لا يزال ممكناً ولكن المدين لم يقم بالتنفيذ . ففي هذه الحالة يجوز للدائن أن يطالب بفسخ العقد . وقد رأينا أن المسئولية العقدية تتحقق أيضاً في هذا الفرض ، فيكون للدائن الخيار بين المطالبة بالتعويض على أساس المسئولية العقدية أو المطالبة بفسخ العقد . بل يجوز أن يتفق المتعاقدان على أن العقد لا يفسخ عند عدم التنفيذ ، وأن يقتصر الدائن على المطالبة بالتعويض على أساس المسئولية العقدية .
471 – عدم التنفيذ الجزئي : وإذا كان عدم التنفيذ جزئياً – ويعتبر في حكم عدم التنفيذ الجزئي أن يكون التنفيذ معيباً – فلا يزال للدائن حق المطالبة بالفسخ . والقاضي في استعمال حقه في التقدير ينظر فيما إذا كان الجزء الباقي دون تنفيذ يبرر الحكم بالفسخ ، أو يكفي إعطاء مهلة للمدين لتكملة التنفيذ . فإذا رأي القاضي أن عدم التنفيذ خطير بحيث يبرر الفسخ ، بقى عليه أن يرى هل يقصى بفسخ العقد كله أو يقتصر على فسخ جزء منه مع بقاء الجزء الآخر . ويقضي بفسخ العقد كله إذا أن التزام المدين لا يحتمل التجزئة ، أو كان يتحملها ولكن الجزء الباقي دون تنفيذ هو الجزء الأساسي من الالتزام .
3 - لا يكون الفسخ إلا إذا كان الدائن مستعداً للقيام بالتزامه وقادراً على إعادة الحال إلى أصلها
472 – وجوب أن يكون الدائن مستعدا للقيام بالتزامه وأن يكون من الممكن إعادة الشيء إلى أصله : ويجب أيضاً أن يكون الدائن طالب الفسخ مستعداً للقيام بالتزامه الذي نشأ من العقد الملزم للجانبين . فليس من العدل أن يخل هو بالتزامه ثم يطلب الفسخ لعدم قيام المدين بتنفيذ ما في ذمته من التزام .
أما إذا استحال على الدائن تنفيذ التزامه لسبب أجنبي ، فإن العقد ينفسخ بحكم القانون انفساخه فيما إذا كانت الاستحالة في جانب المدين .
ولما كان فسخ العقد من شأنه أن يعيد الشيء إلى أصله ، فلا بد للحكم بالفسخ أن يكون الدائن الذي يطلب ذلك قادراً على رد ما أخذ . فإذا كان قد تسلم شيئاً بمقتضى العقد ، وباعه من آخر ، فالتزامه بالضمان يحرمه من حق المطالبة بالفسخ ، لأنه لا يستطيع أن بنزع الشيء من يد المشترى ليرده إلى من تعاقد معه إذ في هذا إخلال بالتزام الضمان . وسنرى في العقود الزمنية أن الفسخ فيها لا يمس ما سبق تنفيذه من هذه العقود ، فليس من الضروري إذن للمطالبة بفسخها أن يرد ما سبق تنفيذه .
أما إذا كان المدين هو الذي استحال عليه أن يرد الشيء إلى أصله ، فإن ذلك لا يمنع من الفسخ ، ويقضي على المدين في هذه الحالة بالتعويض ( م 160 ) . وسيأتي بيان ذلك .
المطلب الثاني
كيف يستعمل حق الفسخ
473 – إعذار المدين : قضت الفقرة الأولى من المادة 157 بأن الدائن ، حتى يطالب بفسخ العقد ، يعذر المدين مطالباً إياه بالتنفيذ . ولم يكن في القانون القديم نص على الإعذار ، ومع ذلك كانت بعض المحاكم تقضي بضرورته ( ) . على أن مجرد رفع الدعوى بالفسخ يعد إعذاراً ( ) .
وإعذاراً الدائن للمدين قبل المطالبة بالفسخ له على كل حال أهمية عملية نظهر في أمرين : ( 1 ) يجعل القاضي أسرع استجابة لطلب الفسخ . ( 2 ) ويجعله أقرب إلى الحكم على المدين بتعويض فوق الحكم بالفسخ ( ) .
ويلاحظ أنه لا ضرورة لاعذار المدين قبل المطالبة بالفسخ إذا صرح المدين كتابة أنه لا يريد القيام بالتزامه ، أو إذا أصبح تنفيذ الالتزام غير ممكن أو غير مجد بفعل المدين بأن كان التنفيذ قد فات ميعاده أو بأن كان الالتزام هو امتناع عن عمل شيء وعمله المدين ( م 200 ) .
474 – صدور حكم بالفسخ : ولابد من رفع دعوى وصدور حكم بفسخ العقد . ونص المادة 157 من القانون الجديد صريح في هذا المعنى ، وقضاء المحاكم في عهد القانون القديم مضطرد في وجوب صدور حكم بالفسخ ( ) .
وهنا يتجلى الفرق ما بين الفسخ بحكم القضاء والفسخ بحكم الاتفاق . ففي الفسخ بحكم الاتفاق ( وكذلك الانفساخ بحكم القانون ) يكون الحكم مقرراً للفسخ لا منشئاً له ، أما الفسخ بحكم القضاء فالحكم فيه منشيء للفسخ ومن ثم تعتبر المطالبة بالفسخ في هذه الحالة من أعمال التصرف ، وإذا رفع الوصى دعوى بالفسخ بدون إذن المحكمة الحسبية كانت الدعوى غير مقبولة ( ) .
475 – الخيار بين الفسخ والتنفيذ : فإذا ما رفع الدائن دعوى الفسخ ، فإن الحكم بالفسخ لا يكون حتمياً ، بل يكون هناك خيار بين الفسخ والتنفيذ . وهذا الخيار يكون لكل ، الدائن والمدين والقاضي .
فالدائن بعد أن يرفع دعوى الفسخ له أن يعدل ، قبل الحكم ، عن طلب الفسخ إلى طلب التنفيذ . كما أنه إذا رفع دعوى التنفيذ فله أن يعدل عنه إلى الفسخ ( ) . على أنه لا يجوز الجمع بين الفسخ والتنفيذ في طلب واحد ( ) . كل هذا ما لم يكن قد نزل عن أحد الطلبين ، ولا يعتبر مجرد رفعه الدعوى بطلب منهما نزولا منه على الطلب الآخر ( ) .
وللمدن كذلك ، قبل النطق بالحكم النهائي ، أن ينفذ التزامه فيتجنب الفسخ ( ) . ولا يبقى في هذه الحالة إلا أن يقدر القاضي ما إذا كان هناك محل للحكم بتعويض للدائن عن تأخر المدين في تنفيذ التزامه . ومما يساعد على الحكم بالتعويض أن يكون الدائن قد أعذر المدين قبل رفع الدعوى ، وقد سبت الإشارة إلى ذلك .
كذلك القاضي ليس محتماً عليه أن يحكم بالفسخ . بل إن له في ذلك سلطة تقديرية . فقد يحكم بالفسخ إذا رأى الظروف تبرر ذلك . وقد لا يحكم به ويعطي المدين مهلة لتنفيذ التزامه ( ) . وتنص الفقرة الثانية من المادة 157 على هذا الحكم صراحة إذ تقول : " ويجوز للقاضي أن تمنح المدين أجلا إذا اقتضت الظروف ذلك ، كما يجوز له أن رفض الفسخ إذا كان ما لم يوف به المدين قليل الأهمية بالنسبة إلى الالتزام في حملته " . ومما يحمل القاضي على الحكم بالفسخ أن يتضح له تعمد المدين عدم التنفيذ أو إهماله في ذلك إهمالا واضحاً رغماً من إعذار الدائن له قبل رفع الدعوى ( ) . ومما يحمله على استبقاء العقد أن يكون ما لم يوف به المدين قليل الأهمية بالنسبة إلى الالتزام في جملته كما يقول النص ( ) . ومما يحمله على إعطاء المدين أجلاً للتنفيذ أن يكون للمدين عذر في تأخره عن التنفيذ ، أو أن يكون الدائن لم يصبه إلا ضرر بسيط من جراء هذا التأخر ( ) ، أو أن يكون الضرر الذي أصاب الدائن إنما نجم عن فعله هو لا عن فعل المدين ( ) . ولا يمنع القاضي أن يعطي مهلة للمدين أن يكون الدائن قد اعذره قبل رفع الدعوى ( ) . وإذا أعطى المدين مهلة وجب عليه القيام بتنفيذ الالتزام في غضونها ، وليس له أن يتعداها ، بل ليس للقاضي أن يعطيه مهلة أخرى ( ) . ويعتبر العقد مفسوخاً من تلقاء نفسه بعد انقضاء المهلة حتى لو لم ينص القاضي في حكمه على ذلك ( ) . وهذا بخلاف الأجل الذي يمنحه القاضي في دعوى التنفيذ ، فإنه يجوز للقاضي في هذا الصدد – طبقاً للفقرة الثانية من المادة 346 – في حالات استثنائية إذا لم يمنعه نص في القانون ، أن ينظر المدين إلى أجل معقول أو آجال ينفذ فيها التزامه إذا استدعت حالته ذلك ولم يلحق الدائن من هذا التأجيل ضرر جسيم ( ) .
476 – تقادم دعوى الفسخ : ودعوى الفسخ ليست لها مدة خاصة تتقادم بها . فتقادمها إذن يكون بخمس عشرة سنة من وقت ثبوت الحق بالفسخ ، ويكون ذلك عادة عند الإعذار ، طبقاً للقواعد العامة في التقادم المسقط . وهذا بخلاف دعوى الإبطال ، فقد رأينا إنها تتقادم بثلاث سنوات أو بخمس عشرة سنة على حسب الأحوال ( ) .
المطلب الثالث
ما يترتب على الفسخ من اثر
477 – النصوص القانونية : نصت المادة 160 من القانون المدني الجديد على ما يأتي :
" إذا فسخ العقد أعيد المتعاقدان إلى الحالة التي كانا عليها قبل العقد ، فإذا استحال ذلك جاز الحكم بالتعويض ( ) " .
ويلاحظ أن هذا النص عام ، يبين ما يترتب على الفسخ من اثر ، سواء كان الفسخ بحكم القاضي أو بحكم الاتفاق أو بحكم القانون . ويتبين من النص أيضاً أنه إذا حكم القاضي بفسخ العقد فإن العقد ينحل ، لا من وقت النطق بالحكم فحسب ، بل من وقت نشوء العقد . فالفسخ له اثر رجعي ، ويعتبر العقد المفسوخ كأن لم يكن ، ويسقط أثره حتى في الماضي . وإذا كان هذا مفهوماً في الفسخ بحكم الاتفاق أو بحكم القانون ، حيث يقتصر الحكم على تقرير أن العقد مفسوخ ولا ينشيء الفسخ . فإنه أيضاً مفهوم في الفسخ بحكم القاضي ولو أن الحكم هنا منشيء للفسخ لا مقرر له . ولا يوجد ما يمنع من أن يكون الحكم منشئاً للفسخ وأن يكون له اثر رجعي ، فالحكم بالشفعة حكم منشيء ولكنه ينقل ملكية العقار المشفوع فيه من وقت البيع لا من وقت النطق بالحكم .
والحكم بالفسخ له هذا الأثر الرجعي فيما بين المتعاقدين وبالنسبة إلى الغير .
478 – اثر الفسخ فيما بين المتعاقدين : ينحل العقد ويعتبر كأن لم يكن . وتجب إعادة كل شيء إلى ما كان عليه قبل العقد .
فإذا كان العقد بيعاً وفسخ ، رد المشتري المبيع إلى البائع ، ورد البائع الثمن إلى المشتري . ويرد المبيع بثمراته والثمن بفوائده القانونية ، وذلك كله من وقت المطالبة القضائية طبقاً للقواعد العامة ( ) . واسترداد كل متعاقد لما أعطاه إنما يكون على أساس استرداد ما دفع دون حق ، كما رأينا في البطلان ويسترد المتعاقد ما أعطاه لا ما يقابله ( ) .
وإذا بنى المشتري أو غرس في العين المبيعة طبقت القواعد العامة ( م 924 – 925 ) ، ويعتبر المشتري في هذا الخصوص حسن النية أو سيئها تبعاً لما إذا كان الفسخ حكم به له أو عليه ( ) .
وإذا هلك المبيع ، وكان المشتري هو الذي يطالب بالفسخ ، لم يجب إلى طلبه إذ تتعذر عليه إعادة الشيء إلى أصله كما قدمنا ، ولكنه يستطيع المطالبة بتعويض على أساس المسئولية العقدية . أما إذا كان البائع هو الذي يطالب بالفسخ ، وهلك المبيع في يد المشتري ، فإن كان الهلاك بخطأ المشتري حكم عليه بالتعويض ، وقد قضت المادة 160 بأنه إذا استحال الرد حكم بالتعويض كما رأينا . فإذا كان الهلاك بسبب أجنبي ، وطبقت قواعد دفع غير المستحق في هذه الحالة كما طبقناها في حالة البطلان ، وجب القول بأن المشتري وقت أن تسلم المبيع ، والعقد قائم لم يفسخ ، كان حسن النية ، فلا يكون مسئولا عن هلاك المبيع إلا بقدر ما عاد عليه من منفعة ، كما إذا انتفع بأنقاض منزل في بناء منزل آخر . وللبائع أن يسترد الشيء التالف في الصورة التي آل إليها دون أن يتقاضى تعويضاً عن التلف . غير أنه لا يتصور أن البائع يبقى على طلب الفسخ بعد أن يعلم أن المبيع قد هلك بسبب أجنبي ، فخير له في هذه الحالة أن يستبقى البيع ، فيطالب بالثمن ، وبذلك يتحمل المشتري تبعة الهلاك ( ) .
وللدائن الذي أجيب إلى فسخ العقد أن يرجع بالتعويض على المدين إذا كان عدم قيام المدين بتنفيذ التزامه راجعاً إلى خطئه ، لإهمال أو تعمد ( ) . والتعويض هنا يبني على المسئولية التقصيرية لا المسئولية العقدية ، فإن العقد بعد أن فسخ لا يصلح أن يكون أساساً للتعويض ، وإنما أساس التعويض هو خطأ المدين ، ويعتبر العقد هنا واقعة مادية لا عملا قانونيناً كما في البطلان . أما العاقد الذي لم يقم بتنفيذ التزامه فليس له أن يطالب بالتعويض ( ) . وإذا كان ما طلبه الدائن هو تنفيذ العقد لا فسخه ، جاز الحكم له بالتعويض على أساس المسئولية العقدية كما قدمنا ، لأن العقد في هذه الحالة بقى قائماً ولم يفسخ . فيصح إذن للدائن أن يحصل على تعويض ، إما مع بقاء العقد على أساس المسئولية العقدية ، وإما بعد فسخ العقد على أساس المسئولية التقصيرية . وهذا هو ما عنته الفقرة الأولى من المادة 157 حين قضت بان اللدائن أن يطالب بتنفيذ العقد أو بفسخه " مع التعويض في الحالتين إن كان له مقتض " .
وإذا كان العقد زمنياً ، كالإيجار ، وفسخ ، لم يكن لفسخه اثر رجعي ، لأن طبيعة العقود الزمنية تستعصى على هذا الأثر . ذلك أن العقد الزمني يقصد الزمن فيه لذاته ، فالزمن معقود عليه ، وما انقضى منه لا يمكن الرجوع فيه ( ) . ويترتب على ذلك أن المدة التي انقضت من عقد الإيجار قبل فسخه تبقى محتفظة باثارها ، ويبقى عد الإيجار قائماً طول هذه المدة ، ويعتبر العقد مفسوخاً من وقت الحكم النهائي بفسخه لا قبل ذلك . وتكون الأجرة المستحقة اعن المدة السابقة على الفسخ لها صفة الأجرة لا التعويض ( ) ، فيبقى لها ضمان امتياز المؤجر ( ) .
وليس فيما قررناه إلا تطبيق للقواعد العامة . وقد تحرينا أن نطبق هذه القواعد في حالة الفسخ كما طبقناها في حالة البطلان ( ) .
479 – اثر الفسخ بالنسبة إلى الغير : ينحل العقد بالنسبة إلى الغير بأثر رجعي أيضاً . فإذا كان العقد بيعاً ، وباع المشتري العين إلى مشتر ثان أو رتب عليها حقاً عينياً كحق إرتفاق أو حق انتفاع ، ثم طالب البائع بفسخ البيع وأجيب إلى طلبه ، رجعت العين إليه خالية من هذه الحقوق .
على أنه يجب ، للوصول إلى هذه النتيجة ، تسجيل دعوى الفسخ على غرار تسجيل دعوى البطلان . وقد نصت المادة 15 من قانون الشعر العقاري على أنه " يجب التأشير في هامش سجل المحررات واجبة الشهر بما يقدم ضدها من الدعاوى التي يكون الغرض منها الطعن في التصرف الذي تضمنه المحرر وجوداً أو صحة أو نفاذاً ، كدعاوى البطلان أو الفسخ أو الإلغاء أو الرجوع . فإذا كان المحرر الأصلي لم يشهر تسجل تلك الدعاوى " . وتنص المادة 17 من هذا القانون على أنه " يترتب على تسجيل الدعاوى المذكورة بالمادة الخامسة عشرة أو التأشير بها أن حق المدعى إذا تقرر بحكم مؤشر به طبق القانون يكون حجة على من ترتبت لهم حقوق عينية ابتداء من تاريخ تسجيل تلك الدعاوى أو التأشير بها . ولا يكون هذا الحق حجة على الغير الذي كسب حقه بحسن نية قبل التأشير أو التسجيل المشار إليهما " .
ويتبين من ذلك أن الغير إذا تلقى حقاً عينياً بعد تسجيل دعوى الفسخ أو التأشير بها ، فإن حقه يزول بفسخ العقد ، سواء كان سيء النية أو حسنها . أما إذا تلقى الحق العيني قبل تسجيل دعوى الفسخ أو التأشير بها ، بأي سبب من أسباب كسب الحقوق العينية ، فإن حقه يزول إذا كان سيء النية ، ويبقى إذا كان حسن النية .
وقد ورد نص خاص لمصلحة الدائن المرتهن رهناً رسمياً ، هو المادة 1034 ، وتقضي بأنه " يبقى قائماً لمصلحة الدائن المرتهن الرهن الصادر من المالك الذي تقرر إبطال سند ملكيته أو فسخه أو إلغاؤه أو زواله لأي سبب آخر ، إذا كان هذا الدائن حسن النية في الوقت الذي ابرم فيه الرهن " . ويعتبر هذا النص تطبيقاً خاصاً للقاعدة العامة التي وردت في المادة 17 من قانون الشهر العقاري .
وقد سبق بيان كل ذلك في البطلان ، والفسخ مثل البطلان في الأثر .
على أنه إذا صح لأحد المتعاقدين أن يحاسب الآخر على عدم القيام بالتزاماته إما من طريق الفسخ وإما من طريق المسئولية العقدية ، فإن الطريق الأول مفتوح دائماً حيث يسد الطريق الثاني في بعض الأحوال . إذ يتفق أن يكون عدم قيام المدين بالتزامه إنما يرجع إلى سبب أجنبي لا يد له فيه . فتنتفي مسئوليته العقدية ، ولكن يبقى الفسخ ، بل إن العقد في هذه الحالة ينفسخ بحكم القانون كما سنرى .
463 – أساس نظرية الفسخ : وليست نظرية الفسخ بالنظرية التي تبده العقل القانوني ، فسلم بها بادئ ذى بدء ، بل هو ثمرة تطور طويل . فقد كان القانون الروماني يأبى التسليم بها . وكان العقد الملزم للجانبين في هذا القانون ينشيء التزامات مستقلة بعضها عن بعض ، ولا تقابل بينها ، كما قدمنا في نظرية السبب . فإذا لم يقم أحد المتعاقدين بتنفيذ التزامه ، لم يكن أمام المتعاقد الآخر إلا أن يطالب بالتفنيذ ، ولا يستطيع أن يتحلل هو من التزامه عن طريق الفسخ . ولكن الرومان بعد تطور افسحوا لفكرة الفسخ مجالا ضيقاً في قعد البيع بعد أن أصبح هذا العقد رضائياً . فأدخلوا فيه شرطاً صريحاً يجعل الحق للبائع في فسخ البيع إذا لم يدفع المشتري الثمن ( ) . وفي الفقه الإسلامي لا يعرف الفسخ نظرية عامة ، وإنما أعطى للبائع خيار النقد كشرط لفسخ البيع إذا لم يستوف الثمن . وكذلك فعل فقهاء القانون الفرنسي القديم ، فقالوا بجواز الفسخ حتى لو لم يوجد شرط صريح ، ولكن الفسخ كان لا يتم إلا بحكم قضائي . وساعد على ذلك ظهور نظرية السبب في القانون الكنسي على النحو الذي قدمناه ، وقد ربطت فكرة السبب مابين الالتزامات المتقابلة في العقد الملزم للجانبين ، لا عند تكوين العقد فحسب ، بل أيضاً عند تنفيذه ومن ثم يكون الفسخ . ثم أخذت فكرة الارتباط ما بين الالتزامات المتقابلة تبرز بوضوح على أيدى فقهاء القانون الطبيعي حتى أصبحت أمراً مسلماً ، وقامت نظرية الفسخ على أساسها . ولكن القانون المدني الفرنسي عندما نقل قاعدة الفسخ نقلها متأثرة بالصياغة الرومانية ، فذكر في المادة 1184 على أن الشرط الفاسخ مفهوم مضناً في العقود الملزمة للجانبين في حالة ما إذا لم يقم أحد المتعاقدين بما في ذمته من التزام . وهو لم يرد بهذا أكثر من أن يقرر القاعدة التي تقضي بجواز فسخ العقد إذا لم يقم المدين بالتزامه . أما ذكر الشرط الفاسخ فهو مجرد تشبيه حملته عليه الاعتبارات الترايخية التي قدمناها .
وليس صحيحاً أن أساس الفسخ هو نظرية الشرط الفاسخ الضمني . ولو صح هذا لترتب عليه أن بمجرد عدم قيام المدين بالتزامه يتحقق الشرط فينفسخ العقد من تلقاء نفسه . وهذا غير صحيح لأن الفسخ لا يكون إلا بحكم قضائي أو باتفاق ، وللقاضي حق التقدير فيجيب طلب الفسخ أو يرفضه ، وللمدين أن يقوم بتنفيذ العقد فيتوقى الحكم بالفسخ ، وللدائن أن يعدل عن المطالبة بفسخ العقد إلى المطالبة بتفنيذه ، كل ذلك على النحو الذي سنبينه فيما يلي ( ) .
ولا نميل إلى اتخاذ نظرية السبب أساساً لنظرية الفسخ ، كما تذهب جمهرة الفقهاء . ونؤثر ، كما بينا في نظرية السبب ، أن نجعل نظرية الفسخ مبينة على فكرة الارتباط ( interdependence ) ما بين الالتزامات المتقابلة في العقود الملزمة للجانبين ، إذ أن طبيعة هذه العقود تقتضى أن يكون التزام أحد المتعاقدين مرتبطاً بالتزام المتعاقد الآخر فيبدو أمراً طبيعياً عادلا أنه إذا لم يقم أحد المتعاقدين بالتزامه ، جاز للمتعاقد الآخر اني وقف هو من جانبه تنفيذ ما في ذمته من التزام ، وهذا هو الدفع بعدم التنفيذ ، أو أن يتحلل نهائياً من هذا الالتزام ، وهذا هو الفسخ ( ) .
464 – خطة البحث : والفسخ يكون بحكم القاضي ، وهذا هو الأصل . وقد يكون باتفاق المتعاقدين . ويكون في بعض الأحوال بحكم القانون ويسمى عند ذلك انفساخاً .
فنحن نبحث : ( 1 ) فسخ العقد بحكم القضاء ( 2 ) فسخ العقد بحكم الاتفاق ( 3 ) انفساخ العقد بحكم القانون .
المبحث الأول
الفسخ بحكم القضاء
465 – مسائل ثلاث : نتكلم في مسائل ثلاث : ( 1 ) شروط المطالبة بالفسخ ( 2 ) كيف يستعمل حق الفسخ ( 3 ) ما يترتب على الفسخ من أثر .
المطلب الأول
شروط المطالبة بالفسخ
466 – النصوص القانونية : نصت المادة 157 من القانون المدني الجديد على ما يأتي :
" 1 - في العقود الملزمة للجانبين ، إذا لم يوف أحد المتعاقدين بالتزامه جاز للمتعاقد الأخر بعد أعذاره المدين أن يطالب بتنفيذ العقد أو بفسخه ، مع التعويض في الحالتين إن كان له مقتض " .
" 2 - ويجوز للقاضي أن تمنح المدين أجلا إذا اقتضت الظروف ذلك ، كما يجوز له أن رفض الفسخ إذا كان ما لم يوف به المدين قليل الأهمية بالنسبة إلى الالتزام في حملته ( ) " .
ولم يستحدث القانون الجديد شيئاً في هذا الموضوع . وقد كان القانون القديم ينص في المادتين 117 / 173 على ما يأتي : " إذا امتنع المدين من وفاء ما هو ملزم به بالتمام ، فللدائن الخيار بين أن يطلب فسخ العقد مع اخذ التضمينات ، وبين أن يطلب التضمينات عن الجزءا الذي لم يقم المدين بوفائه فقط " .
على أن نص القانون الجديد أكثر احاطة بالموضوع وأوضح بياناً . ومنه يتبين أن هناك شروطاً ثلاثة يجب توافرها حتى يثبت للدائن حق المطالبة بفسخ العقد ، اثنين منها يصرح بهما النص ، والشرط الثالث تقتضيه طبيعة المطالبة بالفسخ . وهذه الشروط هي : ( 1 ) أن يكون العقد ملزماً للجانبين ( 2 ) إلا يقوم أحد المتعاقدين بتنفيذ التزامه ( 3 ) أن يكون المتعاقد الآخر الذي يطلب الفسخ مستعداً للقيام بالتزامه من جهة ، وقادراً على إعادة الحال إلى أصلها إذا حكم الفسخ من جهة أخرى .
1 - لا يكون الفسخ إلا في العقود الملزمة للجانبين
467 – العقود الملزمة للجانبين هي وحدها التي يرد عليها الفسخ بمجميع أنواعه ، القضائي والاتفاقي والقانون : أن يكون العقد ملزماً للجانبين هو شرط عام في جميع أنواع الفسخ ، سواء كان الفسخ بحكم القاضي أو بحكم الاتفاق أو بحكم القانون . ذلك أن الفسخ ، بأنواعه الثلاثة ، مبنى على فكرة الارتباط ما بين الالتزامات المتقابلة كما قدمنا . وليس يوجد إلا العقود الملزمة للجانبين التي ينشأ عنها التزامات متقابلة . فهي وحدها التي تتوافر فيها حكمة الفسخ .
وقد قدمنا عند الكلام في تقسيم العقد إلى عقد ملزم للجانبين وعقد ملزم لجانب واحد أن بعض العقود التي كانت تعتبر عقوداً ملزمة لجانب واحد في عهد القانون المدني القديم ، كالعارية والقرض ورهن الحيازة ، يرد عليها الفسخ . وقدمنا أن الفقهاء اختلفت في أمر هذه العقود مذاهب شتى . فمنهم من ينكر فيها حق الفسخ . ومنهم من يقره ولكن يسميه اسقاطاً ( decheance ) لا فسخاً ( resolution ) . ومنهم من يقره على أنه فسخ ويذهب إلى أن حق الفسخ يكون في العقود الملزمة لجانب واحد . وعندنا أن الفسخ جائز في هذه العقود لأنها عقود ملزمة للجانبين حتى في عهد القانون المدني القديم ، وقد سبق لنا بيان ذلك .
أما العقود التي لا يمكن أن تكون إلا ملزمة لجانب واحد ، كالوديعة والكفالة إذا كانتا بغير أجر والهبة إذا كانت بغير عوض ، فقد قدمنا أنه لا يمكن تصور الفسخ فيها ، فإن طرفاً واحداً هو الملتزم ، فإذا لم يقم بتنفيذ التزامه لم يكن للطرف الآخر أية مصلحة في طلب الفسخ إذ ليس في ذمته أي التزام يتحلل منه بالفسخ ، بل مصلحته هي في أن يطلب تنفيذ العقد .
468 – وكل العقود الملزمة للجانبين برد عليها الفسخ : وإذا كانت العقود الملزمة للجانبين هي وحدها التي يرد عليها الفسخ من جهة أخرى يرد عليها جميعاً . وسنرى أن العقد الزمني يرد عليه الفسخ باثر يختلف عن أثر الفسخ في العقد الفوري .
وقد كان القانون المدني القديم يستثنى عقداً واحداً ملزماً للجانبين يمنع فيه الفسخ هو عقد الايراد المرتب مدى الحياة . فكانت المادتان 480 / 588 تنصان على أنه " يجوز لصاحب الايراد في حالة عدم الوفاء أو عدم أداء التأمينات أو إعدامها أو إظهار إفلاس المدين بالايراد أن يتحصل فقط على بيع أموال هذا المدين وتخصيص مبلغ من أثمانها كاف لأداء المرتبات المتفق عليها " ( ) . فالدائن صاحب الايراد لا يجوز له أن يطلب فسخ العقد إذا اخل المدين بالتزامه ، وليس له إلا المطالبة بالتفنيذ العيني ، فيبيع من أموال المدين ما يكفي ريع ثمنه لأداء المرتب المتفق عليه . وقد كنا انتقدنا هذا النص في عهد القانون القديم ( ) ، ورأيناه نصاً غريباً يخرج على القواعد العامة دون سبب ظاهر . وقد نقله المشرع المصري عن المشروع الفرنسي ( ) . ومن أجل ذلك ورد القانون المدني الجديد قاطعاً في هذه المسألة ، وقد رد عقد الايراد المرتب مدى الحياة إلى القواعد العامة ، ولم يمنع فيه الفسخ ، فنصت المادة 746 على أنه " إذا لم يقم المدين بالتزامه ، كان للمستحق أن يطلب تنفيذ العقد ، فإن كان العقد بعوض جاز له أيضاً أن يطلب فسخه مع التعويض إن كان له محل " .
وذهب القضاء الفرنسي إلى أن عقد القسمة لا يجوز فيه طلب الفسخ إذا لم يقم أحد المتقاسمين بتنفذ التزامه من الوفاء بمعدل القسمة مثلا ، وإنما يطالب المتقاسم الذي اخل بالتزامه أن ينفذ هذا الالتزام . ويريد القضاء الفرنسي من ذلك أن يحافظ على مصلحة بقية المتقاسمين الذين يضرهم نقض القسمة بالفسخ ( ) . وهذا القضاء أيضاً محل للنظر . والأولى أن يترك الأمر لتقدير القاضي ، وهو الذي يغلب المصلحة الراجحة فيقضي بالفسخ أو لا يقضي ، وهذه هي القاعدة العامة في الفسخ فلا محل لاستثناء عقد القسمة منها ( ) .
2 - لا يكون الفسخ إلا إذا لم يقم أحد المتعاقدين بتنفيذ التزامه
469 – عدم التنفيذ يرجع إلى سبب أجنبي : إذا كان عدم التنفيذ يرجع إلى استحالته لسبب أجنبي ، فإن التزام المدين ينقضي فينقضي الالتزام المقابل له ، وينفسخ العقد بحكم القانون . وهذا ما سنعرض له بعد قليل .
ومن ذلك نرى أنه إذا أصبح التنفيذ مستحيلا لسبب أجنبي خرجنا من نطاق الفسخ إلى نطاق الانفساخ ( ) .
470 – عدم التنفيذ يرجع إلى فعل المدين : فيجب إذن أن يكون عدم التنفيذ راجعاً إلى غير السبب الأجنبي ، بان يكون التنفيذ العيني أصبح مستحيلا بفعل المدين ، أو لا يزال ممكناً ولكن المدين لم يقم بالتنفيذ . ففي هذه الحالة يجوز للدائن أن يطالب بفسخ العقد . وقد رأينا أن المسئولية العقدية تتحقق أيضاً في هذا الفرض ، فيكون للدائن الخيار بين المطالبة بالتعويض على أساس المسئولية العقدية أو المطالبة بفسخ العقد . بل يجوز أن يتفق المتعاقدان على أن العقد لا يفسخ عند عدم التنفيذ ، وأن يقتصر الدائن على المطالبة بالتعويض على أساس المسئولية العقدية .
471 – عدم التنفيذ الجزئي : وإذا كان عدم التنفيذ جزئياً – ويعتبر في حكم عدم التنفيذ الجزئي أن يكون التنفيذ معيباً – فلا يزال للدائن حق المطالبة بالفسخ . والقاضي في استعمال حقه في التقدير ينظر فيما إذا كان الجزء الباقي دون تنفيذ يبرر الحكم بالفسخ ، أو يكفي إعطاء مهلة للمدين لتكملة التنفيذ . فإذا رأي القاضي أن عدم التنفيذ خطير بحيث يبرر الفسخ ، بقى عليه أن يرى هل يقصى بفسخ العقد كله أو يقتصر على فسخ جزء منه مع بقاء الجزء الآخر . ويقضي بفسخ العقد كله إذا أن التزام المدين لا يحتمل التجزئة ، أو كان يتحملها ولكن الجزء الباقي دون تنفيذ هو الجزء الأساسي من الالتزام .
3 - لا يكون الفسخ إلا إذا كان الدائن مستعداً للقيام بالتزامه وقادراً على إعادة الحال إلى أصلها
472 – وجوب أن يكون الدائن مستعدا للقيام بالتزامه وأن يكون من الممكن إعادة الشيء إلى أصله : ويجب أيضاً أن يكون الدائن طالب الفسخ مستعداً للقيام بالتزامه الذي نشأ من العقد الملزم للجانبين . فليس من العدل أن يخل هو بالتزامه ثم يطلب الفسخ لعدم قيام المدين بتنفيذ ما في ذمته من التزام .
أما إذا استحال على الدائن تنفيذ التزامه لسبب أجنبي ، فإن العقد ينفسخ بحكم القانون انفساخه فيما إذا كانت الاستحالة في جانب المدين .
ولما كان فسخ العقد من شأنه أن يعيد الشيء إلى أصله ، فلا بد للحكم بالفسخ أن يكون الدائن الذي يطلب ذلك قادراً على رد ما أخذ . فإذا كان قد تسلم شيئاً بمقتضى العقد ، وباعه من آخر ، فالتزامه بالضمان يحرمه من حق المطالبة بالفسخ ، لأنه لا يستطيع أن بنزع الشيء من يد المشترى ليرده إلى من تعاقد معه إذ في هذا إخلال بالتزام الضمان . وسنرى في العقود الزمنية أن الفسخ فيها لا يمس ما سبق تنفيذه من هذه العقود ، فليس من الضروري إذن للمطالبة بفسخها أن يرد ما سبق تنفيذه .
أما إذا كان المدين هو الذي استحال عليه أن يرد الشيء إلى أصله ، فإن ذلك لا يمنع من الفسخ ، ويقضي على المدين في هذه الحالة بالتعويض ( م 160 ) . وسيأتي بيان ذلك .
المطلب الثاني
كيف يستعمل حق الفسخ
473 – إعذار المدين : قضت الفقرة الأولى من المادة 157 بأن الدائن ، حتى يطالب بفسخ العقد ، يعذر المدين مطالباً إياه بالتنفيذ . ولم يكن في القانون القديم نص على الإعذار ، ومع ذلك كانت بعض المحاكم تقضي بضرورته ( ) . على أن مجرد رفع الدعوى بالفسخ يعد إعذاراً ( ) .
وإعذاراً الدائن للمدين قبل المطالبة بالفسخ له على كل حال أهمية عملية نظهر في أمرين : ( 1 ) يجعل القاضي أسرع استجابة لطلب الفسخ . ( 2 ) ويجعله أقرب إلى الحكم على المدين بتعويض فوق الحكم بالفسخ ( ) .
ويلاحظ أنه لا ضرورة لاعذار المدين قبل المطالبة بالفسخ إذا صرح المدين كتابة أنه لا يريد القيام بالتزامه ، أو إذا أصبح تنفيذ الالتزام غير ممكن أو غير مجد بفعل المدين بأن كان التنفيذ قد فات ميعاده أو بأن كان الالتزام هو امتناع عن عمل شيء وعمله المدين ( م 200 ) .
474 – صدور حكم بالفسخ : ولابد من رفع دعوى وصدور حكم بفسخ العقد . ونص المادة 157 من القانون الجديد صريح في هذا المعنى ، وقضاء المحاكم في عهد القانون القديم مضطرد في وجوب صدور حكم بالفسخ ( ) .
وهنا يتجلى الفرق ما بين الفسخ بحكم القضاء والفسخ بحكم الاتفاق . ففي الفسخ بحكم الاتفاق ( وكذلك الانفساخ بحكم القانون ) يكون الحكم مقرراً للفسخ لا منشئاً له ، أما الفسخ بحكم القضاء فالحكم فيه منشيء للفسخ ومن ثم تعتبر المطالبة بالفسخ في هذه الحالة من أعمال التصرف ، وإذا رفع الوصى دعوى بالفسخ بدون إذن المحكمة الحسبية كانت الدعوى غير مقبولة ( ) .
475 – الخيار بين الفسخ والتنفيذ : فإذا ما رفع الدائن دعوى الفسخ ، فإن الحكم بالفسخ لا يكون حتمياً ، بل يكون هناك خيار بين الفسخ والتنفيذ . وهذا الخيار يكون لكل ، الدائن والمدين والقاضي .
فالدائن بعد أن يرفع دعوى الفسخ له أن يعدل ، قبل الحكم ، عن طلب الفسخ إلى طلب التنفيذ . كما أنه إذا رفع دعوى التنفيذ فله أن يعدل عنه إلى الفسخ ( ) . على أنه لا يجوز الجمع بين الفسخ والتنفيذ في طلب واحد ( ) . كل هذا ما لم يكن قد نزل عن أحد الطلبين ، ولا يعتبر مجرد رفعه الدعوى بطلب منهما نزولا منه على الطلب الآخر ( ) .
وللمدن كذلك ، قبل النطق بالحكم النهائي ، أن ينفذ التزامه فيتجنب الفسخ ( ) . ولا يبقى في هذه الحالة إلا أن يقدر القاضي ما إذا كان هناك محل للحكم بتعويض للدائن عن تأخر المدين في تنفيذ التزامه . ومما يساعد على الحكم بالتعويض أن يكون الدائن قد أعذر المدين قبل رفع الدعوى ، وقد سبت الإشارة إلى ذلك .
كذلك القاضي ليس محتماً عليه أن يحكم بالفسخ . بل إن له في ذلك سلطة تقديرية . فقد يحكم بالفسخ إذا رأى الظروف تبرر ذلك . وقد لا يحكم به ويعطي المدين مهلة لتنفيذ التزامه ( ) . وتنص الفقرة الثانية من المادة 157 على هذا الحكم صراحة إذ تقول : " ويجوز للقاضي أن تمنح المدين أجلا إذا اقتضت الظروف ذلك ، كما يجوز له أن رفض الفسخ إذا كان ما لم يوف به المدين قليل الأهمية بالنسبة إلى الالتزام في حملته " . ومما يحمل القاضي على الحكم بالفسخ أن يتضح له تعمد المدين عدم التنفيذ أو إهماله في ذلك إهمالا واضحاً رغماً من إعذار الدائن له قبل رفع الدعوى ( ) . ومما يحمله على استبقاء العقد أن يكون ما لم يوف به المدين قليل الأهمية بالنسبة إلى الالتزام في جملته كما يقول النص ( ) . ومما يحمله على إعطاء المدين أجلاً للتنفيذ أن يكون للمدين عذر في تأخره عن التنفيذ ، أو أن يكون الدائن لم يصبه إلا ضرر بسيط من جراء هذا التأخر ( ) ، أو أن يكون الضرر الذي أصاب الدائن إنما نجم عن فعله هو لا عن فعل المدين ( ) . ولا يمنع القاضي أن يعطي مهلة للمدين أن يكون الدائن قد اعذره قبل رفع الدعوى ( ) . وإذا أعطى المدين مهلة وجب عليه القيام بتنفيذ الالتزام في غضونها ، وليس له أن يتعداها ، بل ليس للقاضي أن يعطيه مهلة أخرى ( ) . ويعتبر العقد مفسوخاً من تلقاء نفسه بعد انقضاء المهلة حتى لو لم ينص القاضي في حكمه على ذلك ( ) . وهذا بخلاف الأجل الذي يمنحه القاضي في دعوى التنفيذ ، فإنه يجوز للقاضي في هذا الصدد – طبقاً للفقرة الثانية من المادة 346 – في حالات استثنائية إذا لم يمنعه نص في القانون ، أن ينظر المدين إلى أجل معقول أو آجال ينفذ فيها التزامه إذا استدعت حالته ذلك ولم يلحق الدائن من هذا التأجيل ضرر جسيم ( ) .
476 – تقادم دعوى الفسخ : ودعوى الفسخ ليست لها مدة خاصة تتقادم بها . فتقادمها إذن يكون بخمس عشرة سنة من وقت ثبوت الحق بالفسخ ، ويكون ذلك عادة عند الإعذار ، طبقاً للقواعد العامة في التقادم المسقط . وهذا بخلاف دعوى الإبطال ، فقد رأينا إنها تتقادم بثلاث سنوات أو بخمس عشرة سنة على حسب الأحوال ( ) .
المطلب الثالث
ما يترتب على الفسخ من اثر
477 – النصوص القانونية : نصت المادة 160 من القانون المدني الجديد على ما يأتي :
" إذا فسخ العقد أعيد المتعاقدان إلى الحالة التي كانا عليها قبل العقد ، فإذا استحال ذلك جاز الحكم بالتعويض ( ) " .
ويلاحظ أن هذا النص عام ، يبين ما يترتب على الفسخ من اثر ، سواء كان الفسخ بحكم القاضي أو بحكم الاتفاق أو بحكم القانون . ويتبين من النص أيضاً أنه إذا حكم القاضي بفسخ العقد فإن العقد ينحل ، لا من وقت النطق بالحكم فحسب ، بل من وقت نشوء العقد . فالفسخ له اثر رجعي ، ويعتبر العقد المفسوخ كأن لم يكن ، ويسقط أثره حتى في الماضي . وإذا كان هذا مفهوماً في الفسخ بحكم الاتفاق أو بحكم القانون ، حيث يقتصر الحكم على تقرير أن العقد مفسوخ ولا ينشيء الفسخ . فإنه أيضاً مفهوم في الفسخ بحكم القاضي ولو أن الحكم هنا منشيء للفسخ لا مقرر له . ولا يوجد ما يمنع من أن يكون الحكم منشئاً للفسخ وأن يكون له اثر رجعي ، فالحكم بالشفعة حكم منشيء ولكنه ينقل ملكية العقار المشفوع فيه من وقت البيع لا من وقت النطق بالحكم .
والحكم بالفسخ له هذا الأثر الرجعي فيما بين المتعاقدين وبالنسبة إلى الغير .
478 – اثر الفسخ فيما بين المتعاقدين : ينحل العقد ويعتبر كأن لم يكن . وتجب إعادة كل شيء إلى ما كان عليه قبل العقد .
فإذا كان العقد بيعاً وفسخ ، رد المشتري المبيع إلى البائع ، ورد البائع الثمن إلى المشتري . ويرد المبيع بثمراته والثمن بفوائده القانونية ، وذلك كله من وقت المطالبة القضائية طبقاً للقواعد العامة ( ) . واسترداد كل متعاقد لما أعطاه إنما يكون على أساس استرداد ما دفع دون حق ، كما رأينا في البطلان ويسترد المتعاقد ما أعطاه لا ما يقابله ( ) .
وإذا بنى المشتري أو غرس في العين المبيعة طبقت القواعد العامة ( م 924 – 925 ) ، ويعتبر المشتري في هذا الخصوص حسن النية أو سيئها تبعاً لما إذا كان الفسخ حكم به له أو عليه ( ) .
وإذا هلك المبيع ، وكان المشتري هو الذي يطالب بالفسخ ، لم يجب إلى طلبه إذ تتعذر عليه إعادة الشيء إلى أصله كما قدمنا ، ولكنه يستطيع المطالبة بتعويض على أساس المسئولية العقدية . أما إذا كان البائع هو الذي يطالب بالفسخ ، وهلك المبيع في يد المشتري ، فإن كان الهلاك بخطأ المشتري حكم عليه بالتعويض ، وقد قضت المادة 160 بأنه إذا استحال الرد حكم بالتعويض كما رأينا . فإذا كان الهلاك بسبب أجنبي ، وطبقت قواعد دفع غير المستحق في هذه الحالة كما طبقناها في حالة البطلان ، وجب القول بأن المشتري وقت أن تسلم المبيع ، والعقد قائم لم يفسخ ، كان حسن النية ، فلا يكون مسئولا عن هلاك المبيع إلا بقدر ما عاد عليه من منفعة ، كما إذا انتفع بأنقاض منزل في بناء منزل آخر . وللبائع أن يسترد الشيء التالف في الصورة التي آل إليها دون أن يتقاضى تعويضاً عن التلف . غير أنه لا يتصور أن البائع يبقى على طلب الفسخ بعد أن يعلم أن المبيع قد هلك بسبب أجنبي ، فخير له في هذه الحالة أن يستبقى البيع ، فيطالب بالثمن ، وبذلك يتحمل المشتري تبعة الهلاك ( ) .
وللدائن الذي أجيب إلى فسخ العقد أن يرجع بالتعويض على المدين إذا كان عدم قيام المدين بتنفيذ التزامه راجعاً إلى خطئه ، لإهمال أو تعمد ( ) . والتعويض هنا يبني على المسئولية التقصيرية لا المسئولية العقدية ، فإن العقد بعد أن فسخ لا يصلح أن يكون أساساً للتعويض ، وإنما أساس التعويض هو خطأ المدين ، ويعتبر العقد هنا واقعة مادية لا عملا قانونيناً كما في البطلان . أما العاقد الذي لم يقم بتنفيذ التزامه فليس له أن يطالب بالتعويض ( ) . وإذا كان ما طلبه الدائن هو تنفيذ العقد لا فسخه ، جاز الحكم له بالتعويض على أساس المسئولية العقدية كما قدمنا ، لأن العقد في هذه الحالة بقى قائماً ولم يفسخ . فيصح إذن للدائن أن يحصل على تعويض ، إما مع بقاء العقد على أساس المسئولية العقدية ، وإما بعد فسخ العقد على أساس المسئولية التقصيرية . وهذا هو ما عنته الفقرة الأولى من المادة 157 حين قضت بان اللدائن أن يطالب بتنفيذ العقد أو بفسخه " مع التعويض في الحالتين إن كان له مقتض " .
وإذا كان العقد زمنياً ، كالإيجار ، وفسخ ، لم يكن لفسخه اثر رجعي ، لأن طبيعة العقود الزمنية تستعصى على هذا الأثر . ذلك أن العقد الزمني يقصد الزمن فيه لذاته ، فالزمن معقود عليه ، وما انقضى منه لا يمكن الرجوع فيه ( ) . ويترتب على ذلك أن المدة التي انقضت من عقد الإيجار قبل فسخه تبقى محتفظة باثارها ، ويبقى عد الإيجار قائماً طول هذه المدة ، ويعتبر العقد مفسوخاً من وقت الحكم النهائي بفسخه لا قبل ذلك . وتكون الأجرة المستحقة اعن المدة السابقة على الفسخ لها صفة الأجرة لا التعويض ( ) ، فيبقى لها ضمان امتياز المؤجر ( ) .
وليس فيما قررناه إلا تطبيق للقواعد العامة . وقد تحرينا أن نطبق هذه القواعد في حالة الفسخ كما طبقناها في حالة البطلان ( ) .
479 – اثر الفسخ بالنسبة إلى الغير : ينحل العقد بالنسبة إلى الغير بأثر رجعي أيضاً . فإذا كان العقد بيعاً ، وباع المشتري العين إلى مشتر ثان أو رتب عليها حقاً عينياً كحق إرتفاق أو حق انتفاع ، ثم طالب البائع بفسخ البيع وأجيب إلى طلبه ، رجعت العين إليه خالية من هذه الحقوق .
على أنه يجب ، للوصول إلى هذه النتيجة ، تسجيل دعوى الفسخ على غرار تسجيل دعوى البطلان . وقد نصت المادة 15 من قانون الشعر العقاري على أنه " يجب التأشير في هامش سجل المحررات واجبة الشهر بما يقدم ضدها من الدعاوى التي يكون الغرض منها الطعن في التصرف الذي تضمنه المحرر وجوداً أو صحة أو نفاذاً ، كدعاوى البطلان أو الفسخ أو الإلغاء أو الرجوع . فإذا كان المحرر الأصلي لم يشهر تسجل تلك الدعاوى " . وتنص المادة 17 من هذا القانون على أنه " يترتب على تسجيل الدعاوى المذكورة بالمادة الخامسة عشرة أو التأشير بها أن حق المدعى إذا تقرر بحكم مؤشر به طبق القانون يكون حجة على من ترتبت لهم حقوق عينية ابتداء من تاريخ تسجيل تلك الدعاوى أو التأشير بها . ولا يكون هذا الحق حجة على الغير الذي كسب حقه بحسن نية قبل التأشير أو التسجيل المشار إليهما " .
ويتبين من ذلك أن الغير إذا تلقى حقاً عينياً بعد تسجيل دعوى الفسخ أو التأشير بها ، فإن حقه يزول بفسخ العقد ، سواء كان سيء النية أو حسنها . أما إذا تلقى الحق العيني قبل تسجيل دعوى الفسخ أو التأشير بها ، بأي سبب من أسباب كسب الحقوق العينية ، فإن حقه يزول إذا كان سيء النية ، ويبقى إذا كان حسن النية .
وقد ورد نص خاص لمصلحة الدائن المرتهن رهناً رسمياً ، هو المادة 1034 ، وتقضي بأنه " يبقى قائماً لمصلحة الدائن المرتهن الرهن الصادر من المالك الذي تقرر إبطال سند ملكيته أو فسخه أو إلغاؤه أو زواله لأي سبب آخر ، إذا كان هذا الدائن حسن النية في الوقت الذي ابرم فيه الرهن " . ويعتبر هذا النص تطبيقاً خاصاً للقاعدة العامة التي وردت في المادة 17 من قانون الشهر العقاري .
وقد سبق بيان كل ذلك في البطلان ، والفسخ مثل البطلان في الأثر .
من كتاب الوسيط الدكتور عبدالرازق السنهوري