المحل الذي يرد عليه جزاء الانعدام الإجرائي.
جعل المشرع اليمني في المادة(55) من قانون المرافعات العمل القضائي هو المحل الذي يرد عليه جزاء الانعدام، فقد استعمل المشرع في هذه المادة بشأن تحديده للمحل الذي يرد عليه جزاء الانعدام مصطلح (العمل القضائي)، وهذا لم يحظى بإستحسان فقهاء وشراح قانون المرافعات اليمني الذين اعتبروا ذلك المصطلح مصطلحاً غير واضحاً وغير منضبطاً، ما أدى إلى اختلافهم بشأن المراد به الذي استتبع اختلافهم بشأن تحديد المحل الذي يرد عليه جزاء الانعدام.
وبإستقراء نصوص قانون المرافعات اليمني يتجلى أن مصطلح (العمل القضائي) الوارد في المادة (55) من قانون المرافعات ينصرف إلى العمل القضائي الذي يقوم به القاضي وينصرف أيضاً إلى الأعمال الإجرائية الأخرى التي ليست من عمل القاضي، وأن إستعمال المشرع اليمني في المادة (55) من قانون المرافعات مصطلح (العمل القضائي) إنما كان للدلالة على ضرورة تعلق العمل الإجرائي الذي يرد عليه جزاء الانعدام بالعمل القضائي الذي يقوم به القاضي، ومن ثم فإن مدلول مصطلح (العمل القضائي) الذي استعمله المشرع لا يعني أن يكون العمل الإجرائي الذي يرد عليه جزاء الانعدام من الأعمال التي يقوم بها القاضي، وإنما يعني ضرورة تعلق ذلك العمل بالعمل القضائي الذي يقوم به القاضي أياً كان شخص القائم به القاضي أو معاونيه أو الخصوم أو الغير. بمعنى أكثر وضوحاً أن مصطلح (العمل القضائي) الوارد في المادة (55) مرافعات لا ينصرف فحسب إلى الأعمال الإجرائية التي يقوم بها القاضي بل ينصرف أيضاً إلى الأعمال الإجرائية الأخرى المكونة للخصومة التي ليست من عمل القاضي باعتبارها وسيلة تكوين إرادة القاضي، أي أن مصطلح (العمل القضائي) ينصرف إلى انعدام الخصومة القضائية الذي يُعرض كانعدام للعمل الأخير وهو الحكم القضائي وينصرف أيضاً إلى الأعمال الإجرائية المكونة للخصومة بغض النظر عن شخص القائم بها.
وتفسيرنا هذا الذي نراه يستخلص من النظام القانوني في قانون المرافعات اليمني، فالمفسر عند تفسيره للنص القانوني لا يتقيد بالنص القانوني لفظاً لفظاً، وإنما يجب أن يستخلص معناه من مجموع عباراته، والظروف المحيطة به، وبالنظر إلى النظام القانوني بأجمعه، مستهدياً في ذلك بقصد الشارع والأهداف التي ابتغاها، إذ العبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني، فالمطلوب هو إعمال النصوص إعمالاً صحيحاً وليس التقيد بلفظ أو اصطلاح معين. ويدعم رأينا هذا العديد من الأسانيد والحجج، نذكر منها الآتي:
1-إن هذا التفسير الذي نراه يجد سنده من عبارات النص القانوني، حيث أن المشرع اليمني في المادة (55) من قانون المرافعات قد أورد مصطلح (العمل القضائي) بصيغة العموم غير مقيداً بأي قيد موضوعي أو زمني أو شخصي، فلم يقيده المشرع بمرحلة معينة من مراحل العمل القضائي، كما لم يقيده بأي قيد يتعلق بصفة القائم بالعمل، والقاعدة الأصولية تقرر أن العام يعمل بعمومه حتى يرد الدليل على تخصيصه. ولذلك فإن عموم مصطلح (العمل القضائي) الوارد في المادة(55) مرافعات ينصرف إلى كافة الأعمال الإجرائية المتعلقة بالعمل القضائي الذي يقوم به القاضي، سواءً أكانت متعلقة بمرحلة تكوين العمل القضائي(مرحلة نشأة إرادة القاضي) أو متعلقة بمرحلة التعبير عنه (مرحلة التعبير عن إرادة القاضي)، فهو لا يشمل فحسب الحكم القضائي، وإنما يشمل أيضاً الأعمال الإجرائية المكونة للخصومة بغض النظر عن صفة القائم بها سواءً أكان القاضي أو معاونيه أو الخصوم أو الغير؛ وذلك لأن تلك الأعمال تتعلق بوسيلة تكوين العمل القضائي، كما أن الحكم القضائي يُعد جزءاً من العمل القضائي وليس هو بذاته العمل القضائي، وبالتالي فلا يمكن القول بقصر دلالة مصطلح (العمل القضائي) على مرحلة التعبير عن إرادة القاضي دون مرحلة تكوين هذه الإرادة إلا بصارف. وهذا يتفق مع ما ذهب إلية جمهور الفقه الإجرائي من أن الشكل الإجرائي للعمل القضائي لا يقتصر على وسيلة التعبير عن إرادة القاضي في ورقة الحكم، وإنما يمتد إلى وسيلة تكوين هذه الإرادة لتشمل مراحل تكوينها وهي الخصومة القضائية التي تتكون من عدة أعمال إجرائية تتوقف عليها إضافة إلى الأركان الأخرى للعمل القضائي الآثار النهائية للعمل القضائي. فالعمل القضائي لا يصدر إلا بعد اتخاذ مجموعة من الأعمال الإجرائية المختلفة في مضمونها وطبيعتها وأشخاصها، وتتكون من هذه الأعمال الإجرائية الخصومة القضائية التي تمثل الشكل الإجرائي العام للعمل القضائي والتي تُعد ركن من أركان العمل القضائي اللازمة لوجوده، حيث أن هذه الأعمال الإجرائية تساهم مع غيرها من أركان العمل القضائي في وجود القرار القضائي الذي يُعد الآثار النهائية للعمل القضائي والذي يتوقف على هذه الأعمال الإجرائية إلى جانب الأركان الأخرى للعمل القضائي.
2-إن هذا التفسير الذي نراه يجد سنده من دلالة مفهوم النص القانوني وفحواه، أي من خارج النص القانوني، ويتجلى ذلك من خلال الرجوع إلى النصوص القانونية التي تعتبر تطبيقاً للنص أو يعتبر النص تطبيقاً لها، ومن ذلك المادة (129) من قانون المرافعات اليمني التي نصت على أنه: "يكون عمل القاضي أو عضو النيابة في الأحوال المذكورة في البنود (1،2،4،6،8،9) من المادة السابقة منعدماً كأن لم يكن "، فقد جاءت عبارة (عمل القاضي) الواردة في هذا النص بصيغة العموم تشمل كافة الأعمال الإجرائية التي يقوم بها القاضي، سواءً الحكم أو غيره من الأعمال الإجرائية التي تسبقه، ويدعم ذلك أن المشرع أعقب تلك العبارة بعبارة (أو عضو النيابة)، ومما لا شك فيه أن الأعمال التي يقوم بها عضو النيابة العامة ليس من بينها إطلاقاً الحكم القضائي. ومن ذلك أيضاً المادة (441) من قانون المرافعات اليمني التي قررت انعدام إجراءات التنفيذ المتخذة بعد الحكم باستحقاق العقار المحجوز للغير، فقد جاءت عبارة (إجراءات التنفيذ) الواردة في هذا النص بصيغة العموم تشمل القرارات التنفيذية وغيرها من أعمال(إجراءات) التنفيذ بغض النظر عن صفة القائم بها سواءً أكان القاضي أو معاونيه أو الخصوم أو الغير؛ لأن إجراءات التنفيذ لا يقوم بها القاضي فقط، بل أن بعضها يقوم بها معاونيه والبعض الأخر يقوم بها الخصوم أو الغير. كما أن المادة (12) مرافعات يمني نصت على أنه: " لا يجوز للقاضي أن يفتح نزاعاً حُسم بحكم قائم صدر من ذي ولاية.."، ويظهر من ذلك أن المانع القانوني المقرر في هذا النص القانوني المتمثل بسبق الفصل في محل الدعوى بحكم صادر من ذي ولاية لا يُعد فحسب مانعاً من الفصل في الدعوى، وإنما يُعد أيضاً مانعاً من نظرها وفتح النزاع بشأنها ابتداءً، ما يعني أن جزاء الانعدام الذي رتبته المادة (15) مرافعات على مخالفة هذا المانع القانوني لا يلحق فقط الحكم الصادر في الدعوى التي سبق حسمها، وإنما يلحق أيضاً المطالبة القضائية ابتداءً وكافة إجراءات (أعمال) الخصومة المتخذة بشأنها. وكذلك أن المادة (56) من قانون المرافعات اليمني قررت انعدام الحكم إذا فقد أحد أركانه المنصوص عليها في المادة (217) من ذات القانون، وبالرجوع إلى نص المادة (217) مرافعات نجدها قد أوردت أركان الحكم القضائي، والتي منها الأركان الشكلية، وهي الولاية والخصومة والشكل، ومما لا شك فيه أن الأعمال الإجرائية المتعلقة بهذه الأركان ليست جميعها من عمل القاضي على وجه الخصوص ركن الخصومة التي تتكون من مجموعة من الأعمال الإجرائية المختلفة في مضمونها وطبيعتها وأشخاصها، وهذه الأعمال الإجرائية المكونة للخصومة ليست جميعها من عمل القاضي، وإنما بعضها يقوم بها معاونيه أو الخصوم أو الغير. وليس هذا فحسب بل أن المطالبة القضائية التي تُعد من الأعمال الإجرائية المكونة للخصومة التي يقوم بها الخصوم يؤدي انعدامها إلى عدم نشأة الخصومة وانعدامها برمتها ومن ثم انعدام الحكم القضائي، وذلك باعتبار المطالبة القضائية تُعد مفترضاً ضرورياً لوجود العمل القضائي، فهي محل نشاط القاضي ولا يمكن تصور وجود عمل قضائي دون وجود محله وهو الإدعاء القانوني (المطالبة القضائية)، كما أن وجود المطالبة القضائية يتطلب توافر أركان أو مقتضيات وجودها القانوني التي يترتب على تخلفها كلها أو بعضها انعدام المطالبة القضائية ما يؤدي إلى عدم نشأة الخصومة وانعدامها ومن ثم انعدام الحكم القضائي، لأن المبني على المعدوم يعد معدوماً، فما بني على منعدم فهو معدوم.
3-إن هذا التفسير الذي نراه يجد سنده من دلالة مفهوم النص القانوني وفحواه، أي من خارج النص القانوني، ويتجلى ذلك من خلال ما قرره المشرع اليمني في المادة (57) من قانون المرافعات من جواز مواجهة الانعدام أمام قاضي الموضوع أثناء الخصومة بموجب دفع بالانعدام، وبلا شك أن هذا لا يكون إلا في حالة تعلق الانعدام بإجراء من إجراءات الخصومة، بحيث يكون من حق الخصوم أن يدفعوا بالانعدام دون انتظار صدور الحكم للطعن عليه بما يؤدي إلى محاصرة عيب الانعدام في مهده ومن ثم تقليص الأحكام المنعدمة؛ لأنه من العبث تفويت وسيلة من وسائل التمسك بالانعدام انتظاراً لوسيلة أخرى.
إعلان منتصف المقال
4-إن هذا التفسير الذي نراه يجد سنده من خلال عنوان الفصل الذي نظم فيه المشرع اليمني الانعدام، حيث أن المشرع نظم الانعدام والبطلان في الفصل الثامن من الباب التمهيدي تحت عنوان (بطلان الإجراءات وانعدامها)، فلم ينظم المشرع الانعدام تحت عنوان (انعدام الخصومة) الذي يُعرض كانعدام للعمل الأخير منها وهو الحكم القضائي، وإنما نظمه تحت عنوان (انعدام الإجراءات) الذي يُراد به (انعدام الأعمال الإجرائية). كما يتجلى ذلك من خلال الرجوع إلى النصوص القانونية التي تحكم جزاءات مشابهة، وذلك بتقريب نص المادة (55) مرافعات يمني مع النصوص القانونية التي تحكم جزاء البطلان الذي يتشابه مع الانعدام في أوجه كثيرة، والتي استعمل فيها المشرع مصطلح (إجراء) الذي يراد به (العمل الإجرائي)، فالنصوص القانونية التي تحكم جزاء البطلان جعلت الأعمال الإجرائية هي المحل الذي يرد عليه جزاء البطلان، سواءً الأعمال الإجرائية التي يقوم بها القاضي أو معاونيه أو الخصوم أو الغير.
5- إن التفسير الذي نراه يتفق مع الغاية التي قصد المشرع تحقيقها من وراء تقرير جزاء الانعدام بنص قانوني، بحيث يجب أن يستجيب ذلك الجزاء لهدف النظام الإجرائي الذي يعمل به، وهو ضمان احترام القاعدة الإجرائية وحسن سير المنظومة الإجرائية على نحو صحيح بعيداً عن المخالفات الجسيمة التي تجرد العمل من وجوده القانوني عند تخلف ركن من أركانه الأساسية اللازمة لوجوده، وهذه الغاية متحققة سواءً في الأعمال الإجرائية التي يقوم بها القاضي أو غيرها من الأعمال الإجرائية التي ليست من عمل القاضي، وسواءً أكان ذلك العمل الإجرائي هو الحكم القضائي أو الخصومة بأكملها أو أي عمل من الأعمال الإجرائية المكونة للخصومة؛ وذلك لاتحاد العلة، وهي العيب الجسيم الذي يفقد العمل صفته ووجوده. كما أن لكل عمل إجرائي من الأعمال الإجرائية المكونة للخصومة غايته الخاصة التي تضاف إليها غاية مشتركة بينه وبين غيره من الأعمال الإجرائية الأخرى وهو تكوين الخصومة بوصفها عملاً إجرائياً. وكذلك أن مقتضيات وجود العمل الإجرائي ليست فقط عناصره الداخلية، بل يدخل فيها أيضاً مفترضاته، ومن هذه المفترضات وجود الأعمال السابقة التي يعتمد عليها، ما يعني أن الانعدام لا يرد فحسب على الرابطة الإجرائية (الخصومة) برمتها الذي يُعرض كانعدام للعمل الأخير فيها وهو القرار القضائي (الحكم القضائي)، وإنما يرد أيضاً على أي عمل إجرائي من الأعمال المكونة للخصومة كل منها على حده. أضف إلى ذلك أن القول بورود الانعدام على أي عمل إجرائي من الأعمال المكونة للخصومة يؤدي إلى محاصرة عيب الانعدام منذ الوهلة الأولى للمحاكمة، وهذا يؤدي إلى تفادي السير في إجراءات مهددة بالزوال، وهو ما يوفر الجهد والوقت؛ لأنه قد يترتب أحياناً على انعدام أي عمل من الأعمال المكونة للخصومة زوال الخصومة وانعدامها هي والحكم الصادر فيها، مثل انعدام المطالبة القضائية، وبالتالي فلا يستقيم القول بحرمان كل ذي مصلحة التمسك أثناء نظر الدعوى بانعدام الدعوى لرفعها ضد شخص متوفى أو رفعها أمام محكمة غير مختصة ولائياً إلا بعد صدور الحكم فيها، لأن هذا فيه ضياع للجهد والوقت.
غير أننا نرى أن المشرع اليمني لم يكن موفقاً باستعماله مصطلح (العمل القضائي) في المادة(55) من قانون المرافعات بشأن تحديد المحل الذي يرد عليه جزاء الانعدام، حيث كان الأحرى به استعمال مصطلح (العمل الإجرائي) الذي يُعد أدق مدلولاً في التعبير عن حقيقة المقصود، مثلما فعل في النصوص التي تحكم جزاء البطلان والتي استعمل فيها مصطلح (إجراء) الذي يُراد بهِ (العمل الإجرائي)؛ لان العمل القضائي هو في جوهره عمل إجرائي، ومن ثم فإن مصطلح (العمل الإجرائي) يُعتبر أعم وأشمل من مصطلح (العمل القضائي). ولذلك نوصي بضرورة تدخل المشرع لتعديل المادة(55) من قانون المرافعات باستبدال مصطلح (العمل القضائي) بمصطلح (العمل الإجرائي) الذي يُعد أدق مدلولاً في التعبير عن حقيقة المقصود، بحيث تنص هذه المادة على أن:" الانعدام وصف قانوني يلحق العمل الإجرائي ....".
بناءً على ذلك فإنه يدخل في طائفة الأعمال الإجرائية التي يرد عليها جزاء الانعدام الأعمال القانونية التي يقوم بها القاضي، سواءً تمثلت في الأحكام أم القرارات أم الأوامر، وسواءً أكانت صادرة قبل الفصل في الموضوع أم فاصلة فيه أم متعلقة بمرحلة التنفيذ، وسواءً أكانت صادرة في خصومة أم صادرة دون خصومة كأوامر الأداء والأوامر على عرائض. ويدخل أيضاً في طائفة الأعمال الإجرائية التي يرد عليها جزاء الانعدام الأعمال القانونية التي يقوم بها الأشخاص الإجرائيين في الخصومة والتي تؤثر فيها، سواءً أكانوا الخصوم أو وكلائهم أم أعوان القضاء(مساعدي القاضي) كالكتبة والمحضرين أم الغير الذي ليس طرفاً في الخصومة كالخبير الذي يقوم بعمل بناءً على تكليف من القاضي في خصومة قائمة والشاهد الذي يؤدي شهادة في خصومة قائمة. كما يدخل في طائفة الأعمال الإجرائية التي يرد عليها جزاء الانعدام الأعمال القانونية التي تتم في الخصومة التحكيمية وتؤثر فيها بغض النظر عن شخص القائم بها، سواءً أكان المحكم أم الخصوم أم الغير، والأمر كذلك بشأن الأعمال القانونية التي تتم في الخصومة أمام جهات القضاء الخاص أو الاستثنائي وتؤثر فيها.
والله ولي الهداية والتوفيق،،،
المحامي الدكتور/هشام قايد الشميري.