الضرر هو الركن الثاني للمسئولية التقصيرية . فليس يكفي لتحقق المسئولية أن يقع خطأ ، بل يجب أن يحدث الخطأ ضرراً ( ) ونتكلم هنا في قيام الضرر في يذاته . أما الكلام في التعويض عن الضرر فمحله الفرع الخاص بآثار المسئولية .
والمضرور هو الذي يثبت وقوع الضرر به . ووقوع الضرر واقعة مادية يجوز إثباتها بجميع الطرق ، ومنها البينة والقرائن ( ) .
569 – الضرر المادي والضرر الأدبي : وقد يكون الضرر مادياً يصيب المضرور في جسمه أو في ماله ، وهو الأكثر الغالب . وقد يكون أدبياً يصيب المضرور في شعوره أو عاطفته أو كرامته أو شرفه أو أي معنى آخر من المعاني التي يحرص الناس عليها . ونتكلم في كل من هذين النوعين .
المطلب الأول
الضرر المادي
570 - شرطان : الضرر المادي هو إخلال بمصلحة للمضرور ذات قيمة مالية . ويجب أن يكون هذا الإخلال محققاً ، ولا يكفي أن يكون محتملاً يقع أو لا يقع .
فللضرر المادي إذن شرطان : ( 1 ) أن يكون هناك إخلال بمصلحة مالية للمضرور . ( 2 ) أن يكون محققاً ونبحث كلاً من هذين الشرطين .
$ 1 - الإخلال بمصلحة مالية للمضرور
571 – الضرر إخلال بحق أو بمصلحة : قد تكون المصلحة المالية للمضرور حقاً أو مجرد مصلحة مالية . ونستعرض كلاً من الفرضين .
572 – الضرر إخلال بحق للمضرور : لكل شخص الحق في السلامة : سلامة حياته وسلامة جسمه . فالتعدي على الحياة ضرر ، بل هو أبلغ الضرر وإتلاف عضو أو إحداث جرح أو إصابة الجسم أو العقل بأي أذى آخر من شأنه أن يخل بقدرة الشخص على الكسب أو يكبد نفقة في العلاج هو أيضاً ضرر مادي ( ) .
والتعدي على الملك هو إخلال بحق ويعتبر ضرراً . فإذا أحرق شخص منزلاً لآخر ، أو قلع زراعته ، أو خرب أرضه ، أو أتلف له مالاً كأثاث أو عروض أو غير ذلك ، كان هذا ضرراً مادياً أصاب المضرور في حق ثابت له . وكل إخلال بحق مالي ثابت ، عينياً كان هذا الحق أو شخصياً ، هو ضرر مادي . والأمثلة على ذلك كثيرة تجتزئ بما قدمناه منها .
وقد يصيب الضرر شخصاً بالتبعية عن طريق ضرر أصاب شخصاً آخر . فالقتل ضرر أصاب المقتول في حياته ، وعن طريق هذا الضرر أصيب بضرر أولاد المقتول بحرمانهم من العائل ، وهذا عدا الضرر الأول الذي أصاب المقتول نفسه ( ) . والحق الذي يعتبر الإخلال به ضرراً أصاب الأولاد تبعاً هو حقهم في النفقة قبل أبيهم ( ) . وقد يكون المضرور تبعاً دائناً للمصاب لا بنفقة ولكن بحق آخر ، فالإخلال بهذا الحق يعتبر ضرراً بالتبعية . مثل ذلك دائن يطالب المدين بعمل يستوجب تدخله الشخصي ، وقد قتل المدين ، فللدائن مطالبة القاتل بالتعويض عن الضرر الذي أصابه من جراء فقد مدينه وفوات الفرصة عليه في تنفيذ العمل . أما إذا كان الدائن يستطيع أن يحصل على حقه من غير تدخل المدين ، فلا يكون ثمة ضرر . ذلك أن التركة إذا كانت موسرة استطاع الدائن أن يتقاضى منها حقه ، وإذا كانت معسرة فقد ثبت أن المدين كان معسراً قبل موته ولم يحدث للدائن ضرر بالموت .
573 – الضرر إخلال بمصلحة مالية للمضرور : وقد يكون الضرر إخلالاً لا بحق للمضرور ولكن بمجرد مصلحة مالية ليه . مثل ذلك أن يصاب عامل فيستحق معاشاً عند رب العمل ، فيكون المسئول عن إصابة العامل قد أصاب رب العمل في مصلحة مالية له إذ جعله مسئولاً عن معاش العامل ، والإخلال بالمصلحة المالية على هذا النحو يعد ضرراً . ومثل آخر للمصلحة المالية التي يصاب فيها المضرور أن يفقد عائله دون أن يكون له حق ثابت في النفقة ، وهذا بخلاف من له حق ثابت في النفقة فإن الضرر يصيبه في حق لا في مصلحة . ويقع ذلك إذا كان شخص يعول أحداً من أقاربه أو ممن يلوذ به دون أن يلزمه القانون بالنفقة عليه – فمن يعال إذا فقد العائل يكون قد أصيب في مصلحة مالية – لا في حق – إذا هو أثبت أن العائل كان يعوله فعلاً وعلى نحو مستمر دائم وأن فرصة الاستمرار على ذلك في المستقبل كانت محققة ، فيقدر القاضي ما ضاع على المضرور من فرصة بفقد عائله ويقضي له بتعويض على هذا الأساس . كذلك الضرر الذي يصيب الخطيبة من فقد خطيبها يقاس بمقدار ما كلفتها الخطبة من نفقات وبمقدار ما ضاع عليها من فرصة في إتمام الزاج ، وهذا أمر يترك تقديره للقاضي ( ) .
ويراعى أن المصلحة المالية التي يعد الإخلال بها ضرراً هي المصلحة المشروعة . أما المصلحة غير المشروعة فلا يعتد بها ، ولا يعتبر الإخلال بها ضرراً يستوجب التعويض . فالخليلة لا يجوز أن تطالب بتعويض عن ضرر أصابها بفقد خليلها ، لأن العلاقة فيما بينهما كانت غير مشروعة . أما الولد الطبيعي والأبوان الطبيعيان فيجوز لهم ذلك ، لأن العلاقة فيما بينهم ، وإن كانت قد نشأت عن علاقة غير مشروعة ، هي في ذاتها مشروعة ( ) .
$ 2 - تحقق الضرر
574 – الضرر الحال والضرر المستقبل : ويجب أن يكون الضرر محقق الوقوع ، بأن يكون قد وقع فعلاً ، أو سيقع حتماً ( ) .
مثل الضرر الذي وقع فعلاً – وهو الضرر الحال – هو أن يموت المضرور أو يصاب بتلف في جسمه أو في ماله أو في مصلحة مالية له على النحو الذي قدمناه .
ومثل الضرر الذي سيقع حتماً – وهو الضرر المستقبل – هو أن يصاب عامل فيعجز عن العمل ، فيعوض ليس فحسب عن الضرر الذي وقع فعلاً من جراء عجزه عن العمل في الحال ، بل وعن الضرر الذي سيقع حتماً من جراء عجزه عن العمل في المستقبل . فإذا كان هذا الضرر يمكن تقديره فوراً قدره القاضي وحكم به كاملاً . أما إذا كان لا يمكن تقديره ، فقد يرجع ذلك إلى أن الضرر يتوقف تقديره على أمر لا يزال مجهولاً ، كما إذا أصيب العامل في ساقه وتوقف تقدير الضرر على ما إذا كانت الساق ستبتر أو ستبقى . فللقاضي في هذه الحالة أن يقدر التعويض على كلا الفرضين ويحكم بما قدر ، ويتقاضى العامل التعويض الذي يستحقه وفقاً لأي من الفرضين يتحقق في المستقبل . وقد يرجع عدم إمكان التقدير في الحال إلى أن العامل سيبقى عاجزاً عن العمل عجزاً كلياً أو جزئياً طول حياته ، ولا يعلم أحد في أي وقت يموت ، فيجوز للقاضى في هذه الحالة أن يجعل التعويض إيراداً مرتباً مدى الحياة – وقد يرجع عدم إمكان تقدير الضرر إلى أسباب أخرى ، فيجوز للقاضي بعد أن يقدر الضرر وفقاً لما تبينه من الظروف أن يحتفظ للمضرور بالحق في أن يطالب في خلال مدة معينة بإعادة النظر في التقدير ( ) . وقد أشار إلى هذه الفروض القانون المدني الجديد . فقضى في المادة 170 بأن " يقدر القاضي مدى التعويض عن الضرر الذي لحق المضرور طبقاً لأحكام المادتين 221 و 222 مراعياً في ذلك الظروف الملابسة ، فإن لم يتيسر له وقت الحكم أن يعين مدى التعويض تعييناً نهائياً فله أن يحتفظ للمضرور بالحق في أن يطالب خلال مدة معينة بإعادة النظر في التقدير ( ) " . وقضى في الفقرة الأولى من المادة 171 بأن " يعين القاضي طريقة التعويض تبعاً للظروف . ويصح أن يكون التعويض مقسطاً كما يصح أن يكون إيراداً مرتباً . ويجوز في هاتين الحالتين إلزام المدين بأن يقدم تأميناً ( ) " . وسيأتي تفصيل ذلك عند الكلام في التعويض .
على أن الضرر المستقبل قد لا يكون متوقعاً وقت الحكم بالتعويض فلا يدخل في حساب القاضي عند تقديره ، ثم تتكشف الظروف بعد ذلك عما تفاقم منه ، كأن يكف بصر العامل الذي أصيب في عينه أو أن تؤدي إصابته إلى وفاته . فهنا يجوز للمضرور أو لورثته أن يطالبوا في دعوى جديدة بالتعويض عما استجد من الضرر مما لم يكن قد دخل في حساب القاضي عند تقدير التعويض الأول . ولا يمنع من ذلك قوة الشيء المقضي ، فإن الضرر الجديد لم يسبق أن حكم بتعويض عنه أو قضى فيه . ولا يعتبر نزول النقد ظرفاً من شأنه أن يزيد في الضرر ، فإذا حكم لشخص بإيراد مرتب تعويضاً عن الضرر الذي وقع به ، وقدر الإيراد بمبلغ من النقود ، ثم انخفضت قيمة النقد بعد ذلك فلا يستطيع المضرور أن يطالب بإعادة النظر في تقدير الإيراد ، ما لم يكن المبلغ المحكوم به قد روعى فيه أن يكون كافياً لنفقة المضرور ، فيجوز عند ذلك زيادة الإيراد أو إنقاصه تبعاً لانخفاض قيمة النقد أو ارتفاعها ( ) أما إذاك أن القاضي قدر قيمة الضرر وحكم بالتعويض وفقاً لهذا التقدير ، ثم تكشفت الظروف بعد ذلك عن تناقص الضرر تناقصاً لم يكن متوقعاً ، كأن قضى لعامل بتعويض عن إصابة أدت إلى كف بصره ، ثم تبين بعد ذلك أن العامل قد أسرد شيئاً من قوة الإبصار ، فلا يجوز في هذه الحالة أن يعاد النظر في تقدير التعويض لإنقاصه لأن هذا التقدير قد حاز قوة الشيء المقضي ( )
575 – الضرر المحتمل : ويجب التمييز بين الضرر المستقبل ( prej . futur ) وهو ضرر محقق يجب التعويض عنه على ما بينا – والضرر المحتمل ( prej eventuel ) وهو ضرر غير محقق ، قد يقع وقد لا يقع ، فلا يكون التعويض عنه واجباً إلا إذا وقع فعلاً . مثل ذلك أن يحدث شخص بخطئه خللاً في منزل جاره ، فالضرر المحقق هنا هو ما وقع من هذا الخلل ، ويلتزم المسئول بإصلاحه ، ولكنه لا يلتزم بإعادة بناء المنزل إذا لم يكن من المحقق أن الخلل سيؤدي إلى انهدامه .ويتربص صاحب المنزل حتى إذا أنهدم منزله فعلاً بسبب هذا الخلل ، رجع على المسئول بالتعويض عن ذلك ( ) .
576 – التعويض عن تفويت الفرصة : كذلك يجب التمييز بين الضرر المحتمل – وهذا لا يعوض عنه على النحو الذي مر – وتوفيت الفرصة ( pere d'une chance ) ويعوض عنه . ذلك أن الفرصة إذا كانت أمراً محتملاً ، فإن توفيتها أمر محقق . وعلى هذا الأساس يجب التعويض ، فإذا أهمل محضر في إعلان صحيفة الاستئناف إلى أن فات ميعاده ، أو قصرت جهة عقدت مسابقة في إخطار أحد المستابقين عن ميعاد المسابقة ففاته التقدم إليها ، فإنه إذا كان لا يمكن القول إن المستأنف كان يكسب الاستئناف حتماً لو أنه رفع في الميعاد ، أو أن المستابق كان يفوز حتماً في المسابقة لو أنه تقدم إليها ، فلا يمكن القول من جهة أخرى إن الأول كان يخسر الاستئناف حتماً ، وأن الثاني كان لا يفوز حتماً في المسابقة . وكل ما يمكن قوله إن كلا منهما قد فوتت عليه فرصة الكسب أو الفوز . وهذا هو القدر المحقق من الضرر الذي وقع وعلى القاضي أن يقدر هذا الضرر ، بأن ينظر إلى أي حد كان الاحتمال كبيراً في كسب الاستئناف أو في الفوز في المسابقة ، ويقضي بتعويض يعدل هذا الاحتمال . والأمر لا شك يتسع فيه مجال الاجتهاد ويختلف فيه التقدير ، وعلى القاضي أن يأخذ بالأحوط وأن يتوقى المبالغة في تقدير الاحتمال في نجاح الفرصة ( ) .
ومما جرى به القضاء المصري التعويض عن توفيت فرصة النجاح في الامتحان ( ) ، والتعويض عن توفيت الفرصة في كسب دعوى الشفعة ( ) ، والتعويض عن تفويت الموظف الفرصة في الترقية إلى درجة أعلى ( ) .
المطلب الثاني
الضرر الأدبي ( )
577 - تحديد الضرر الأدبي : الضرر الأدبي ( dommage moral ) هو الضرر الذي لا يصيب الشخص في ماله . وقد رأينا أن الضرر الذي يصيب الشخص في حق أو في مصلحة مالية هو ضرر مادي . وعلى النقيض من ذلك الضرر الأدبي ، فهو لا يمس المال ولكن يصيب مصلحة غير مالية . ويمكن إرجاع الضرر الأدبي إلى أحوال معينة :
1 - ضرر أدبي يصيب الجسم . فالجروح والتلف الذي يصيب الجسم والألم الذي ينجم عن ذلك وما قد يعقب من تشويه في الوجه أو في الأعضاء في الجسم بوجه عام ، كل هذا يكون ضرراً مادياً وأدبياً إذا نتج عنه إنفاق المال في العلاج أو نقص في القدرة على الكسب المادي ، ويكون ضرراً أدبياً فحسب إذا لم ينتج عنه ذلك .
2 - ضرر أدبي يصيب الشرف والاعتبار والعرض . فالقذف والسب وهتك العرض وإيذاء السمعة بالتقولات والتخرصات والاعتداء على الكرامة ، كل هذه أعمال تحدث ضرراً أدبياً إذ هي تضر بسمعة المصاب وتؤذي شرفه واعتباره بين الناس ( ) .
3 - ضرر أدبي يصيب العاطفة والشعور والحنان . فانتزاع الطفل من حضن أمه وخطفه ، والاعتداء على الأولاد أو الأم أو الأب أو الزوج أو الزوجة ، كل هذه أعمال تصيب المضرورة في عاطفته وشعوره ، وتدخل إلى قلبه الغم والأسى والحزن . ويلحق بهذه الأعمال كل عمل يصيب الشخص في معتقداته الدينية وشعوره الأدبي ( ) .
4 - ضرر أدبي يصيب الشخص من مجرد الاعتداء على حق ثابت له . فإذا دخل شخص أرضاً مملوكة لآخر بالرغم من معارضة المالك ، جاز لهذا أن يطالب بتعويض عما أصابه من الضرر الأدبي من جراء الاعتداء على حقه . حتى لو لم يصبه ضرر مادي من هذا الاعتداء .
ويجب في جميع هذه الأحوال أن يكون الضرر الأدبي . كالضرر المادي ، ضرراً محققاً غير احتمالي .
578 – الضرر الأدبي قابل للتعويض : والضرر الأدبي على النحو الذي قدمناه قابل للتعويض بالمال . وقد كان القانون الروماني يقر أحوالاً كثيرة يعوض فيها عن الضرر الأدبي في كل من المسئوليتين التقصيرية والعقدية .
وتلاه القانون الفرنسي القديم ، فأجاز التعويض عن الضرر الأدبي ، وقصر ذلك على المسئولية التقصيرية دون المسئولية العقدية ، توهما أن هذا هو حكم القانون الروماني . وقد قدمنا أن هذا القانون لا يفرق بين المسئوليتين في وجوب التعويض عن الضرر الأدبي .
ونصوص القانون الفرنسي الحديث في عمومها وإطلاقها تسمح بالتعويض عن الضرر الأدبي بقدر ما تسمح بالتعويض عن الضرر المادي . وقد أقر القضاء الفرنسي هذا المبدأ منذ عهد طويل ، ووطده في أحكام كثيرة ( ) أما الفقه الفرنسي فقد انقسم بادئ الأمر إلى فريقين . الفريق الأول رأي أن التعويض عن الضرر الأدبي متعذر إذ أن هذا الضرر بطبيعته غير قابل للتعويض ، وحتى إذا كان قابلاً له فإن التعويض فيه يستعصى على التقدير ( ) . والفريق الآخر ميز بين ضرر أدبي يجوز تعويضه وضرر أدبي لا يجوز فيه التعويض ، واختلفوا في وضع حد هذا التمييز . فمنهم من يقصر التعويض على الضرر الأدبي الذي يجر إلى ضرر مادي ، ولا يعوض إلا هذا الضرر المادي وحده ( ) . فهؤلاء إذن لا يجيزون تعويض الضرر الأدبي في ذاته .و منهم من يقصر التعويض على الضرر الأدبي الذي يترتب على جريمة جنائية ( ) . وليس هناك أساس معقول لهذا التمييز . ومنهم من يجيز التعويض في الضرر الأدبي الذي يصيب الشرف والاعتبار لأنه في العادة يجر إلى ضرر مادي ، ولا يجيزه في الضرر الأدبي الذي يصيب العاطفة والشعور لأنه يتمحض ضرراً أدبياً لا يمتزج به ضرر مادي ( ) . ولكن جمهور الفقهاء في العهد الأخير يقولون بجواز التعويض عن الضرر الأدبي ( ) . أما القول بأن طبيعة هذا الضرر لا تقبل التعويض وأن تقدير التعويض فيه مستعص فمبنى على لبس في فهم معنى التعويض . إذ لا يقصد بتعويض الضرر محوه وإزالته من الوجود . وإلا فالضرر الأدبي لا يمحى ولايزول بتعويض مادي . ولكن يقصد بالتعويض أن يستحدث المضرور لنفسه بديلاً عما أصابه من الضرر الأدبي . فالخسارة لا تزول ، ولكن يقوم إلى جانبها كسب يعوض عنها . وعلى هذا المعنى يمكن تعويض الضرر الأدبي . فمن أصيب في شرفه واعتباره جاز أن يعوض عن ذلك بما يرد اعتباره بين الناس ، وغن مجرد الحكم على المسئول بتعويض ضئيل ونشر هذا الحكم لكفيل برد اعتبار المضرور ( ) . ومن أصيب في عاطفته وشعوره إذا حصل على تعويض مالي فتح له المال أبواب المواساة تكفكف من شجنه . والألم الذي يصيب الجسم يسكن من أوجاعه مال يناله المضرور يرفه به عن نفسه أما تقدير مبلغ التعويض فليس بأشد مشقة من تقدير التعويض في بعض أنواع الضرر المادي . وما على القاضي إلا أن يقدر مبلغاً يكفي عوضاً عن الضرر الأدبي ، دون غلو في التقارير ولا إسراف .
وفي مصر استقر الفقه ( ) والقضاء ( ) على جواز التعويض عن الضرر الأدبي . ثم أتى القانون المدني الجديد فأكد هذا الحكم ، إذ نص في المادة 222 على ما يأتي :
" 1 - يشتمل التعويض الضرر الأدبي أيضاً ، ولكن لا يجوز في هذه الحالة أن ينتقل إلى الغير إلا إذا تحدد بمقتضى اتفاق ، أو طالب الدائن به أمام القضاء " .
" 2 - ومع ذلك لا يجوز الحكم بتعويض إلا للأزواج والأقارب إلى الدرجة الثانية عما يصيبهم من ألم من جراء موت المصاب ( ) " .
وعلى هذا المبدأ استقرت التقنينات الحديثة ( ) .
579 – من له حق التعويض عن الضرر الأدبي : كل من أصيب بضرر أدبي له الحق في المطالبة بالتعويض عنه . وقد حددنا فيما تقدم ما هو المقصود بالضرر الأدبي .
فإذا كان الضرر الأدبي هو موت شخص ، وجب التمييز بين الضرر الذي أصاب الميت نفسه ، ويراد أن ينتقل حق التعويض عنه بموته إلى ورثته ، والضرر الذي أصاب أقارب الميت وذويه في عواطفهم وشعورهم الشخصي من جراء موته ( ) .
أما الضرر الذي أصاب الميت نفسه ، فلا ينتقل حق التعويض عنه إلى ورثته ذلك أن التعويض عن الضرر الأدبي لا ينتقل بالميراث – كما سنرى – إلا إذا تحدد بمقتضى اتفاق أو طالب الدائن به أمام القضاء . وفي حالتنا لا يتصور شيء من ذلك ، إذ الضرر الأدبي هو موت الشخص نفسه ، فلا يمكن أن يكون التعويض عن هذا الموت قد تحدد بمقتضى اتفاق مع الميت أو طالب به هذا أمام القضاء .
بقى الضرر الذي يصيب ذوي الميت بطريق مباشر . وهنا عرض النص إلى تحديد من هؤلاء يجوز الحكم له بالتعويض . . فذكر أنه لا يجوز الحكم بتعويض إلا للأزواج والأقارب إلى الدرجة الثانية . ويتبين من ذلك أن الحق في المطالبة بالتعويض يقتصر على الزوج الحي وأقارب الميت إلى الدرجة الثانية وهم أبوه وأمه وجده وجدته لأيه أو لأمه وأولاده وأولاد أولاده وأخوته وأخواته . ولا يعطى القاضي تعويضاً لهؤلاء جميعاً إذا وجدوا ، بل يعطى التعويض لمن منهم أصابه ألم حقيقي بموت المصاب . والمقصود هنا التعويض عن الضرر الأدبي لا عن الضرر المادي ، فهذا الضرر الأخير العبرة فيه بمن له حق النفقة على الميت ومن كان الميت يعوله فعاد كما قدمنا . فإذا كانت الأقارب لا تدخل فيمن تقدم ذكرهم ، لم يجز الحكم لهم بتعويض عن الضرر الأدبي مهما كانت دعواهم فيما أصابهم من ألم بموت المصاب . فلا يحكم بتعويض عن الضرر الأدبي لأولاد الأخوة والأخوات ، ولا للأعمام والأخوال والعمات والخالات ، ولا لأولادهم من باب أولى ، ولا للخطيب والخطيبة ، ولا للأصدقاء مهما كان الميت قريباً إلى نفوسهم ( ) . وظاهر أن خطة القانون الجديد في الضرر الأدبي غير خطته في الإكراه والدفاع الشرعي وحالة الضرورة ، حيث حصر الأقارب هنا ولم يحصرهم هناك . ويبرر ذلك الميل إلى حصر نطاق الإدعاء بوقوع ضرر أدبي ، والحد من المغالاة في ذلك منعاً للاستغلال .
أما إذا كان المصاب لم يمت ، فتعويض ذويه عن الضرر الأدبي الذي لحقهم بإصابته يجب الأخذ فيه بحذر أكبر ، وإن كان النص لم يعرض إلا لحالة الموت وترك ما دون ذلك لتقدير القاضي . ومن الصعب أن نتصور تعويضاً يعطى عن الضرر الأدبي في هذه الحالة لغير الأم والأب .
580 - متى يمكن انتقال الحق في التعويض عن الضرر الأدبي : الأصل في التعويض عن الضرر الأدبي أنه شخصي مقصور على المضرور نفسه فلا ينتقل إلى غيره بالميراث أو بالعقد أو بغير ذلك من أسباب الانتقال إلا إذا أصبحت مطالبة المضرور به محققة . وقد عرضت المادة 222 التي تقدم ذكرها لتحديد ذلك ، فذكرت أن انتقال حق التعويض لا يتم إلا بإحدى طريقتين : ( الأولى ) أن يكون التعويض قد اتفق على مبدئه وعلى مقداره ما بين المضرور والمسئول ، فتحدد التعويض على هذا الوجه بمقتضى اتفاق بين الاثنين . ( والثانية ) أن يكون قد استعصى الاتفاق فلجأ المضرور إلى القضاء وطالب المسئول بالتعويض ، أي أنه رفع الدعوى فعلاً أمام المحاكم .
أما قبل الاتفاق أو المطالبة القضائية فلا ينتقل الحق في التعويض إلى أحد . فإذا مات المضرور قبل ذلك فلا ينتقل التعويض إلى ورثته ، بل يزول الحق بموته ( ) .
وكان القضاء المصري في عهد القانون القديم يجري على مقتضى هذا الحكم ( ) . بل إنه تشدد في آخر ذلك العهد وأصبح لا يكتفي ، إذا لم يوجد اتفاق ، بالمطالبة القضائية لانتقال حق التعويض ، بل يشترط صدور حكم نهائي يقرر مبدأ التعويض ويعين مقداره ( ) .
الوسيط للدكتور عبدالرزاق السنهوري