الدكتور عبدالرزاق السنهوري
ان جزاء المسئولية هو التعويض وهذا الجزاء أما أن يقوم في صورته العادية المألوفة ، وأما أن تعتوره ملابسات وأوصاف فنخرجه إلى صورة معدلة .
ونستعرض كلا من هاتين الصورتين .
المطلب الأول
التعويض في صورته العادية المألوفة
641 – طريقة التعويض وكيفية تقديره : نبحث أمرين : ( 1 ) كيف يعين القاضي طريقة التعويض ( mode de reparation ) ( 2 ) وكيف يقدر القاضي مدى التعويض ( evaluation des dommages - interets ) .
1 - طريقة التعويض :
642 – النصوص القانونية : تنص المادة 171 من القانون المدني الجديد على ما يأتي :
" 1 - يعين القاضي طريقة التعويض تبعا للظروف ، ويصح أن يكون التعويض مقسطا كما يصح أن يكون إيرادا مرتبا ، ويجوز في هاتين الحالتين إلزام المدين بأن يقدم تأمينا " .
" 2 - ويقدر التعويض بالنقد ، على أنه يجوز للقاضي ، تبعا للظروف وبناء على طلب المضرور ، أن يأمر بإعادة الحالة إلى ما كانت عليه ، أو أن يحكم بأداء أمر معين متصل بالعمل غير المشروع ، وذلك على سبيل التعويض ( ) " .
ويتبين من هذا النص أن الأصل في التعويض أن يكون تعويضاً نقدياً . ذلك أن التعويض ( reparation ) بمعناه الواسع إما أن يكون تعويضاً عينياً وهذا هو التنفيذ العيني ( execution en nature ) وإما أن يكون تعويضاً بمقابل ( reparation par equivalent ) والتعويض بمقابل إما أن يكون تعويضاً غير نقدي ( reparation non - pecuniaire ) أو تعويضاً نقدياً ( reparation pecuniaire ) .
643 – التنفيذ العيني : التعويض العيني أو التنفيذ العيني هو الوفاء بالالتزام عيناً . ويقع هذا كثيراً في الالتزامات العقدية ( ) . أما في المسئولية التقصيرية فيمكن كذلك في قليل من الفروض أن يجبر المدين على التنفيذ العيني . ذلك أن المدين في المسئولية التقصيرية قد اخل بالتزامه القانوني من عدم الأضرار بالغير دون حق . وقد يتخذ الإخلال بهذا الالتزام صورة القيام بعمل تمكن إزالته ومحو أثره ، كما إذا بنى شخص حائطا في ملكه ليسد على جاره الضوء والهواء تعسفاً منه ، ففي هذه الحالة يكون الباني مسئولا مسئولية تقصيرية نحو الجار بتعويض ما أحدثه من الضرر ، ويجوز هنا أن يكون التعويض عينياً بهدم الحائط على حساب الباني ، أو عن طريق التهديد المالي . وهذا ما قصد إليه القانوني المدني الجديد عندما ينص في الفقرة الثانية من المادة 171 على أنه " يجوز للقاضي ، تبعاً للظروف ، وبناء على طلب المضرور ، أن يأمر بإعادة الحالة إلى ما كانت عليه " .
والقاضي ليس ملزماً أن يحكم بالتنفيذ العيني . ولكن يتعين عليه أن يقضي به إذا كان ممكناً . وطالب به الدائن ، أو تقدم به المدين .
644 – التعويض غير النقدي : وفي الكثرة الغالبة من الأحوال يتعذر التنفيذ العيني في المسئولية التقصيرية . فلا يبقى أمام القاضى إلا أن يحكم بالتعويض . وليس من الضروري أن أن يكون التعويض نقداً ، وإن كان هذا هو الغالب . فيجوز للقاضي أن يحكم بان يدفع للدائن بسند أو بسهم تنتقل إليه ملكيته ويستولى على ريعته تعويضاً له عن الضرر الذي أصابه . كما يجوز للقاضي ، في حالة ما إذا هدم صاحب السفل سفله دون حق وامتنع من أن يعيد بناءه ، أن يأمر ببيع السفل لمن يتعهد ببنائه ( أنظر م 860 فقرة أولى ) . وفي دعاوى السب والقذف يجوز للقاضي أن يأمر على سبيل التعويض بنشر الحكم القاضي بإدانة المدعى عليه في الصحف ، وهذا النشر يعتبر تعويضاً غير نقدي عن الضرر الأدبي الذي أصاب المدعى عليه . وهذا ما عناه القانون المدني الجديد عندما نص في الفقرة الثانية من المادة 171 على أنه يجوز للقاضي " أن يحكم باداء أمر معين متصل بالعمل غير المشروع وذلك على سبيل التعويض " . بل إن الحكم بالمصروفات على المدعى عليه في مثل هذه الأحوال ، والاقتصاد على ذلك ، قد يعتبر تعويضاً كافياً عن الضرر الأدبي الذي أصاب المدعى ، وهو تعويض غير نقدي لأن الملحوظ فيه هو المعنى الذي يتضمنه .
645 – التعويض النقدي : وهذا هو التعويض الذي يغلب الحكم به في دعاوى المسئولية التقصيرية . فإن كل ضرر – حتى الضرر الأدبي – يمكن تقويمه بالنقد . ففي جميع الأحوال التي يتعذر فهيا التنفيذ العيني ، ولا يرى القاضي فيها سبيلا إلى تعويض غير نقدي ، يحكم بتعويض نقدي . والتعويض النقدي هو الأصل . ومن ثم نصت الفقرة الثانية من المادة 171 من القانون المدني الجديد على أنه " يقدر التعويض بالنقد " .
والأصل أيضاً أن يكون التعويض النقدي مبلغاً معيناً يعطي دفعة واحدة . ولكن ليس ثمة ما يمنع القاضي من الحكم ، تبعاً للظروف ، بتعويض نقدي مقسط أو بإيراد مرتب مدى الحياة . والفرق بين الصورتين أن التعويض المقسط يدفع على أقساط تحدد مددها ، ويعين عددها ، ويتم استيفاء التعويض بدفع آخر قسط منها . أما الإيراد المرتب مدى الحياة ، فيدفع هو أيضاً على أقساط تحدد مددها ، ولكن لا يعرف عددها لأن الإيراد يدفع ما دام صاحبه على قيد الحياة ولا ينقطع إلا بموته . ويحكم القاضي بتعويض مقسط إذا رأى أن هذه هي الطريقة المناسبة للتعويض . ويتحقق ذلك مثلا إذا كان المدعى قد أصيب بما يعجزه عن العمل مدة معينة من الزمن ، فيقضي له بتعويض مقسط حتى يبرأ من أصابته . ويحكم القاضي بإيراد مرتب مدى الحياة إذا كان العجز عن العمل – كلياً أو جزئياً – عجزاً دائماً ، فيقضي للمضرور بإيراد يتقاضاه ما دام حياً ، تعويضاً له مما أصابه من الضرر بسبب هذا العجز الكلي أو الجزئي ( ) . ولما كان المسئول هو المدين بهذا التعويض المقسط أو بهذا الإيراد المرتب ، وكان الدين المترتب في ذمته يبقى مدداً قد تطول ، فقد يرى القاضي أن يلزمه بتقديم تأمين . وهذا هو ما تقضي به الفقرة الولى من 171 من القانون المدني الجديد . إذ تنص على أنه " يعين القاضي طريقة التعويض تبعاً للظروف ، ويصح أن يكون التعويض مقسطاً كما يصح أن يكون ايراداً مرتباً ، ويجوز في هاتين الحالتين إلزام المدين بان يقدم تأميناً " . وليس هناك ما يمنع القاضي من أن يحكم على المسئول بدفع مبلغ من المال إلى شركة تأمين مثلا لتحويله إلى إيراد مرتب يعطي للمضرور ، ويكون هذا بمثابة التأمين للدائن .
فإذا تعذر التنفيذ العيني والتعويض غير النقدي ، وتعين الحكم بتعويض نقدي ، ولم تستدعى الظروف أن يكون هذا التعويض مقسطاً أو إيراداً مرتباً ، رجع القاضي إلى الأصل وهو الحكم بمبلغ معين من المال يعطيه المسئول للمضرور دفعة واحدة .
2 - تقدير التعويض
646 – النصوص القانونية : تنص المادة 170 من القانون المدني الجديد على ما يأتي :
" يقدر القاضي مدي التعويض عن الضرر الذي لحق المضرور طبقا لأحكام المادتين 221 ، 222 ، مراعياً في ذلك الظروف الملابسة ، فان لم يتيسر له وقت الحكم أن يعين مدي التعويض تعيينا نهائيا ، فله أن يحتفظ للمضرور بالحق في أن يطالب خلال مدة معينة بإعادة النظر في التقدير ( ) " .
والمادتان 221 و 222 المشار إليهما في النص قد سبق إيرادهما . ونعيد ذكرهما هنا زيادة في الإيضاح .
تنص المادة 221 على ما يأتي : " 1 - إذا لم يكن التعويض مقدرا في العقد أو بنص في القانون ، فالقاضي هو الذي يقدره ، ويشمل التعويض ما لحق الدائن من خسارة وما فاته من كسب ، بشرط أن يكون هذا نتيجة طبيعية لعدم الوفاء بالالتزام أو للتأخر في الوفاء به ، ويعتبر الضرر نتيجة طبيعية إذا لم يكن في استطاعه الدائن أن يتوقا ببذل جهد معقول . 2 - ومع ذلك إذا كان الالتزام مصدره العقد ، فلا يلتزم لمدين الذي لم يرتكب غشا أو خطأ جسيما إلا بتعويض الضرر الذي كان يمكن توقعه عادة وقت التعاقد " .
وتنص المادة 222 على ما يأتي : " 1 - يشمل التعويض الضرر الأدبي أيضا ، ولكن لا يجوز في هذه الحالة أن ينتقل إلى الغير إلا إذا تحدد بمقتضى اتفاق ، أو طالب الدائن به أمام القضاء . 2 - ومع ذلك لا يجوز الحكم بتعويض إلا للأزواج والأقارب إلى الدرجة الثانية عما يصيبهم من ألم من جراء موت المصاب " .
647 – مقياس التعويض الضرر المباشر : ويتبين من هذه النصوص أن التعويض مقياسه الضرر المباشر . فالتعويض في أية صورة كانت – تعويضاً عينياً أو بمقابل ، وتعويضاً نقدياً أو غير نقدي ، وتعويضاً مقسطاً أو ايراداً مرتباً أو رأس مال – يقدر بمقدار الضرر المباشر أحدثه الخطأ ، سواء كان هذا الضرر مادياً أو ادبيا ، وسواء كان متوقعاً أو غير متوقع ، وسواء كان حالا أو مستقبلا ما دام محققاً . وقد تقدم ذكر هذا كله عند الكلام في ركن الضرر .
والضرر المباشر يشتمل على عنصرين جوهريين هما الخسارة التي لحقت المضرور ( damnum emergens ) والكسب الذي فاته ( lucurm cessans ) . فهذان العنصران هما اللذان يقومهما القاضي بالمال . فلو أن شخصاً أتلف سيارة مملوكة لآخر . وكان صاحب السيارة اشتراها بألف وحصل على وعد من الغير أن يشتريها منه بمائتين وألف ، فالألف هي الخسارة التي لحقت صاحب السيارة ، والمائتان هو الكسب الذي فاته . وكلاهما ضرر مباشر يجب التعويض عنه .
ولا يدخل في الحساب عند تقدير التعويض أن يكون الضرر متوقعاً أو غير متوقع . ففي المسئولية التقصيرية يشمل التعويض كل ضرر مباشر ، متوقعاً كان هذا الضرر أو غير متوقع . أما في المسئولية العقدية فيقتصر التعويض على الضرر المتوقع في غير حالتي الغش والخطأ الجسيم . وقد تقدم بيان ذلك .
648 – الظروف الملابسة التي من شأنها أن تؤثر في تقدير التعويض : وتقول المادة 170 أن القاضي يراعى في تقدير التعويض " الظروف الملابسة " . ويقصد بالظروف الملابسة هنا الظروف التي تلابس الضرر لا الظروف التي تلابس المسئول . فالظروف الشخصية التي تحيط بالمضرور وما قد أفاده بسبب التعويض ، كل هذا يدخل في حساب القاضي عند تقديره للتعويض . أما الظروف الشخصية التي تحيط بالمسئول وجسامة الخطأ الذي صدر منه ، فلا يدخل في الحساب ، على خلاف في الرأي بالنسبة إلى جسامة الخطأ .
فالظروف الشخصية التي تحيط بالمضرور تدخل في الاعتبار ، لأن التعويض يقاس بمقدار الضرر الذي أصاب المضرور بالذات ، فيقدر على أساس ذاتي ( in concreto ) لا على أساس موضوع ( in abstracto ) . ويكون محلا للاعتبار حالة المضرور الجسمية والصحية . فمن كان " عصبياً " ، فإن الانزعاج الذي يتولاه من حادث يكون ضرره أشد بكثير مما يصيب شخصاً سليم الأعصاب ومن كان مريضا " بالسكر " ويصاب بجرح ، كانت خطورة هذا الجرح أشد بكثير من خطورة الجرح الذي يصيب السليم ( ) . كذلك يكون محلا للاعتبار حالة المضرور العائلية ، فمن يعول زوجة وأطفالا يكون ضرره أشد من ضرر الاعزب الذي لا يعول إلا نفسه . ويدخل أيضاً في الاعتبار حالة المضرور المالية : وليس ذلك معناه أن المضرور إذا كان غنياً أو فقيراً ، وإنما الذي يدخل في الاعتبار هو اختلاف الكسب الذي يفوت المضرور من جراء الإصابة التي لحقته ، فمن كان كسبه اكبر كان الضرر الذي يحيق به أشد ( ) .
وقد يفيد المضرور من التعويض الذي تقاضاه من المسئول . مثل ذلك أن يتلف شخص متاعاً قديماً مملوكاً لآخر فيعوضه عنه متاعاً جديداً . فعلى المضرور أن يدفع إلى المسئول بالمتاع القديم التالف ( laisse pour compte ) حتى لا يجمع بين المتاعين القديم والجديد ( ) . ويبقى بعد ذلك أنه افاد بالفرق بين قيمة الجديد وقيمة القديم . ومن رأينا أن المضرور يرد هذا الفرق للمسئول طبقاً لقواعد الإثراء بلا سبب ، على الأقل إذا كان في استطاعة المسئول أن يعوض المتاع القديم بمتاع قديم مثله فلم يفعل وأعطى المضرور المتاع الجديد ( ) .
أما الظروف الشخصية التي تحيط بالمسئول فلا تدخل في الحساب عند تقدير التعويض . فإذا كان المسئول غنياً لم يكن هذا سبباً في أن يدفع تعويضاً أكثر ، أو كان فقيراً لم يكن هذا سبباً في أن يدفع تعويضاً أقل ( ) . وسواء كان المسئول لا يعول إلا نفسه أو يعول أسرة كبيرة ، فهو يدفع التعويض بقدر ما أحدث من الضرر ، دون مراعاة لظروفه الشخصية . إذ العبرة في تحديد مدى الضرر بالظروف الشخصية التي تحيط بالمضرور لا بالمسئول ( ) . كذلك لا يزيد في مقدار التعويض أن يكون المسئول قد امن على مسئوليته بدعوى أن شركة التأمين هي التي ستدفع التعويض . ولا يدخل في الحساب ما قد يفيد المسئول من كسب بسبب الضرر الذي أحدثه ، فاللص الذي يستعين بالمسروق في مواجهة أزمة مالية حلت به فينتفع انتفاعاً كبيراً لا يكون مسئولا إلا بمقدار ما سرق لا بمقدار ما أفاد ( ) .
والأصل أنه لا ينظر إلى جسامة الخطأ الذي صدر من المسئول عند تقدير التعويض . وإذا تحققت المسئولية ، قدر التعويض بقدر جسامة الضرر لا يقدر جسامة الخطأ . ومهما كان الخطأ يسيراً فإن التعويض يجب أن يكون عن كل الضرر المباشر الذي أحدثه هذا الخطأ اليسير . ومهما كان الخطأ جسيماً فإن التعويض يجب إلا يزيد عن هذا الضرر المباشر . وهذا هو مقتضى فصل التعويض المدني عن العقوبة الجنائية ، فالتعويض المدني شيء موضوعي لا يراعى فيه إلا الضرر ، والعقوبة الجنائية شيء ذاتي تراعى فيه جسامة الخطأ . هذا هو الأصل ، ولكن القضاء يدخل عادة في اعتباره جسامة الخطأ في تقدير التعويض . وهذا شعور طبيعي يستولى على القاضي ، فما دام مقدار التعويض موكولا إلى تقديره فهو يميل إلى الزيادة فيه إذا كان الخطأ جسيما وإلى التخفيف منه إذا كان الخطأ يسيراً . وعلى هذا يسير القضاء في مصر وفي فرنسا ، وقد سبق لنا بيان ذلك ( ) .
649 – الضرر المتغير والوقت الذي يقدر فيه ( ) : نفرض أن الضرر متغير منذ أن وقع إلى يوم النطق بالحكم . مثل ذلك شخص صدمته سيارة بخطأ سائقها ، فاصيب بكسر في يده ، وعندما طالب بالتعويض كان الكسر قد تطور فأصبح أشد خطورة مما كان ، وعند صدور الحكم كانت خطورته قد اشتدت وانقلب إلى عاهة مستديمة . لا شك في أن القاضي يدخل في حسابه عند تقدير التعويض تطور الإصابة من يوم وقوعها إلى يوم صدور الحكم ، فيقدر الضرر باعتبار أن الكسر قد انقلب إلى عاهة مستديمة ( ) .
كذلك لو خف الضرر من يوم وقوعه إلى يوم صدور الحكم ، وأصبح الكسر أقل خطورة مما كان في أول أمره ، حسب القاضي التعويض مراعياً ما كان عليه الكسر من خطر ثم ما طرأ عليه من تحسن ( ) .
فالعبرة إذن في تقدير التعويض بيوم صدور الحكم ، اشتد الضرر أو خف .
أما إذا كانا لضرر لم يتغير منذ وقوعه إلى يوم صدور الحكم ، والذي تغير هو سعر النقد الذي يقدر به التعويض أو أسعار السوق بوجه عام فالعبرة بالسعر يوم صدور الحكم ، ارتفع هذا السعر منذ وقوع الضرر أو انخفض ( ) . على أنه إذا كان المضرور قد أصلح الضرر بمال من عنده ، فإنه يرجع بما دفعه فعلا ، مهما تغير السعر يوم صدور الحكم .
650 – النفقة المؤقتة : وقد يرى القاضي أثناء نظر دعوى المسئولية أن المضرور في حاجة قصوى إلى نفقة موقتة ( provision ) يدفعها له المسئول من حساب التعويض الذي سيقضي له به في النهاية . فيجوز للقاضي عندئذ أن يحكم بهذه النفقة مع مراعاة الشروط الآتية :
1 - أن يكون مبدأ المسئولية قد تقرر ، ولم يبق إلا تقدير التعويض .
2 - أن تكون عناصر تقدير التعويض لا تزال ، لإعدادها ، في حاجة إلى مدة طويلة .
3 - أن يكون المضرور في حاجة ملحة إلى هذه النفقة .
4 – أن يكون المبلغ الذي يقدره القاضي للنفقة أقل من مبلغ التعويض الذي ينتظر أن يقدر به الضرر ( ) .
المطلب الثاني
التعويض في صورته المعدلة الموصوفة
651 – حالات ثلاث : ما قدمناه في التعويض هو حكمه في صورته العادية المألوفة . ولكن هذا الحكم قد يعدل منه وصف يلحقه ، فيكون للتعويض صورة أخرى معدلة موصوفة . ويقع هذا في حالات ثلاث : ( الحالة الأولى ) أن يتفق الطرفان قبل تحقق المسئولية على تعديل الأحكام التي قدمناها . ( والحالة الثانية ) أن يؤمن المسئول على مسئوليته المحتملة قبل تحققها . ( والحالة الثالثة ) أن ينفتح أمام المضرور طريقان للتعويض عن الضرر الذي أصابه .
وتتميز الحالتان الأولى والثانية عن الحالة الثالثة بأن الوصف الذي لحق التعويض في الحالتين الأوليين يتصل بالمسئول ، أما الوصف الذي لحق التعويض في الحالة الثالثة فيتصل بالمضرور .
ونتكلم في هذه الحالات الثلاث : ( 1 ) الاتفاق على تعديل أحكام المسئولية ( 2 ) التأمين على المسئولية ( 3 ) اجتماع طريقين للتعويض .
1 – الاتفاق على تعديل أحكام المسئولية
652 – نطاق الاتفاق على تعديل أحكام المسئولية : إذا تحققت المسئولية التقصيرية فإن الاتفاق على تعديل أحكامها إعفاء أو تخفيفاً أو تشديداً جائز إطلاقاً . ويكون في الغالب بمثابة صلح ، والصلح جائز فيما هو ليس من النظام العام . فإذا صدر خطأ من شخص سبب ضرراً لآخر ، فللمضرور أن يعفي المسئول من التعويض ، ويكون بذلك قد نزل عن حقه . ويصح أيضاً أن يتفق المضرور مع المسئول أن يتقاضى منه تعويضا أقل مما يستحق ، فيعفيه من التعويض عن بعض الضرر . ويكون هذا إما نزولا من المضرور عن بعض حقه ، أو هو صلح بينه وبين المسئول إذا كان هذا ينازع في مبدأ المسئولية أو في مقدار التعويض . ويصح أخيراً أن يعطي المسئول المضرور تعويضاً أكثر مما يستحق . ويكون متبرعاً بما زاد .
وليس فيما قدمناه محل للنزاع ، وإنما النزاع في الاتفاق بين الطرفين مقدماً وقبل تحقق المسئولية . وهذا هو نطاق الاتفاق على تعديل أحكام المسئولية قد يقال كيف يقع ذلك ولا يعرف أحد مقدماً من هو الشخص الذي سيضره بعمله غير المشروع ، فإن هذا إذا تيسر في المسئولية العقدية ، إذ العقد يجمع منذ البداية بين المسئول والمضرور ، فهو ليس بميسور في المسئولية التقصيرية ، إذ أن الطرفين لا يعرف أحدهما الآخر إلا عند وقوع الضرر ، فلا يتصور لاتفاق بينهما إلا بعد تحقق المسئولية ؟ وإذا كان هذا صحيحاً في الكثرة الغالبة من الأحوال . فإنه يتصور في بعض أحوال المسئولية التقصيرية أن يعرف شخص من يحتمل أن يضر به من الناس بعمل غير مشروع . فقد تقوم أوضاع تجمع بين أشخاص يحتمل أن يكون فيهم في المستقبل مسئول ومضرور . مثل ذلك الجيران ، كل جار بالنسبة إلى جاره يحتمل أن يكون مسئولا ومضروراً ، فيتصور اتفاق الجيران على تعديل أحكام المسئولية التقصيرية عند تحققها . مثل ذلك أيضاً صاحب المصنع والملاك المجاورون ، ومصلحة السكك الحديدية وملاك الأراضي التي تمر السكك الحديدية بجوارها ، وملاك الحيوانات التي تجتمع في مكان واحد لاحتمال أن تؤذى الحيوانات بعضها بعضاً ، وأصحاب السيارات إذا دخلت في سباق لاحتمال أن تتحقق المسئولية التقصيرية فيما بينها ، ومدير الشركة والشركاء فيما عسى إن يرتكب المدير من خطأ تقصيري ، والنقل المجاني فيما بين الناقل والمنقول . يتصور إذن أن هؤلاء يتفقون فيما بينهم على التعديل من أحكام المسئولية التقصيرية .
ويجب التمييز بين الاتفاق على تعديل أحكام المسئولية والاتفاق على ضمان المسئولية . فالاتفاق على ضمان المسئولية مثله أن يؤمن المسئول عن مسئوليته في شركة تأمين . ويشبه ذلك أن يتفق صاحب البناء مع مقاول تعهد بهدم البناء أن يكون ضامناً لما عسى أن يتحقق من مسئولية صاحب البناء بسبب الهدم ، وأن تتفق الحكومة مع ناد رياضي أن يضمن لها ما عسى أن يتحقق من مسئوليتها بسبب الألعاب الرياضية التي يقوم بها النادي . والفرق بين الاتفاق على تعديل أحكام المسئولية والاتفاق على ضمان المسئولية أن الاتفاق الأول يقوم مباشرة بين المسئول والمضرور . وقد يرفع المسئولية أصلاً عن المسئول قبل المضرور . أما الاتفاق الثاني فيقوم بين المسئول الأصلي ومسئول آخر يضمنه ، لا ليرفع المسئولية عن المسئول الأصلي ، بل ليؤكدها بضم مسئول إليه يتحمل في ا لنهاية المسئولية إذا تحققت دون أن ينتقص ذلك من حق المضرور في الرجوع على المسئول الأصلي .
والاتفاق على التعديل من أحكام المسئولية إما أن يكون اتفاقاً للاعفاء من المسئولية أو للتخفيف منها ، وإما أن يكون اتفاقاً للتشديد من المسئولية . ونستعرض كلا من الحالتين .
653 – الاتفاق على الإعفاء من المسئولية التقصيرية أو على التخفيف منها : هذا الاتفاق قد يرمى إلى الإعفاء من المسئولية بتاتاً . وقد يرمى إلى التخفيف منها ، إما بإنقاص مدى التعويض فلا يعوض إلا عن بعض الضرر دون بعض ، وإما بتحديد مبلغ معين كشرط جزائي يكون هو مبلغ التعويض مهما بلغ الضرر ، وإما بتقصير المدة التي ترفع فيها دعوى المسئولية .
وقد كفل القانون المدني الجديد بيان حكم هذه الاتفاقات ، فنصت الفقرة الثالثة من المادة 217 على ما يأتي : " ويقع باطلا كل شرط يقضي بالإعفاء من المسئولية المترتبة على العمل غير المشروع ( ) " .
والقضاء في مصر وفي فرنسا جرى على هذا المبدأ ، لا بالنسبة إلى الإعفاء من المسئولية فحسب ، بل أيضاً بالنسبة إلى التخفيف منها في صورة المختلفة ( ) وتعليل ذلك أن أحكام المسئولية التقصيرية من النظام العام ، والقانون هو الذي يتكفل بتقريرها . فهي ليست كأحكام المسئولية العقدية التي هي من صنع المتعاقدين ، فيستطيعان أن يحورا فيها وأن يعفيا منها . فلا يجوز إذن الاتفاق على الإعفاء من المسئولية التقصيرية أو على التخفيف منها سواء من حيث مدى التعويض أو من حيث الشرط الجزائي أو من حيث مدة الدعوى . وقد رأينا في المسئولية العقدية أن كل هذا جائز في غير العمد والخطأ الجسيم .
أما الفقه في فرنسا فيناقش القضاء منتقدا إياه ، ويرى أن غير الجائز من هذه الاتفاقات هو الاتفاق الخاص بالمسئولية التقصرية إذا ترتبت على العمد أو الخطأ الجسيم وكذلك إذا ترتبت على خطأ يسير ولحق الضرر الجسم دون المال . فإن الاتفاق على الإعفاء من المسئولية التي تترتب على تعمد الأضرار بالغير أو ما هو بمنزلة هذا التعمد ( الخطأ الجسيم ) ، أو على التخفيف من هذه المسئولية ، يكون مخالفاً للنظام العام . كذلك الأمر إذا كان الضرر يلحق الجسم لا المال ، ولا ترتب على خطأ يسير ، فإن جسم الإنسان لا يجوز إن يكون محلا للاتفاقات المالية . لكن إذا كان الضرر يلحق المال ويترتب على خطأ يسير ، فليس في القواعد العامة ما يمنع من الاتفاق على الإعفاء من المسئولية فيها ، ومن باب أولى من الاتفاق على التخفيف من المسئولية في أية صورة من صور التخفيف ( ) .
ومهما يكن من أمر فالقانون الجديد صريح في بطلان الاتفاق على الإعفاء من المسئولية التقصيرية أو على التخفيف منها . وهو في ذلك يؤيد القضاء في مصر وفي فرنسا على النحو الذي أسلفناه .
654 – الاتفاق على التشديد في المسئولية التقصيرية : وقد يكون الاتفاق من شأنه أن يشدد في المسئولية التقصيرية . مثل ذلك أن يتفق الطرفان على أن يكون الخطأ مفترضاً في جانب المسئول في حالات لا يفرض فيها القانون الخطأ . ومثل ذلك أيضاً الاتفاق على مسئولية المدين حتى لو لم يرتكب خطأ .
ويبدو أنه إذا كان الاتفاق على التخفيف من المسئولية أو الإعفاء منها مخالفاً للنظام العام ، فإن الاتفاق على التشديد فيها لا يخالف النظام العام ، فيكون مشروعاً . يؤيد ذلك ما قضت به الفقرة الأولى من المادة 217 من القانون المدني الجديد من أنه " يجوز الاتفاق على أن يتحمل المدين تبعة الحادث المفاجئ والقوة القاهرة " ( ) . وغنى عن البيان أن المسئولية ذاتها لا تتحقق بقيام الحادث المفاجئ والقوة القاهرة لانعدام علاقة السببية . فإذا كان من الممكن أن يتحمل الشخص بالاتفاق تبعة مسئولية لم تتحقق ، فيتحمل التبعة ( risqué ) لا المسئولية ويكون بمثابة المؤمن ، فمن باب أولى يستطيع أن يتفق على التشديد من مسئولية قد تحققت .
2 - التأمين على المسئولية
655 – متى يجوز التأمين على المسئولية : التأمين على المسئولية يفضل الإعفاء من المسئولية ، لأنه في الوقت الذي يزيح فيه عن عاتق المسئول عبء المسئولية لا يحرم المضرور من حقه في التعويض . وهو ميسر بفضل انتشار شركات التأمين ، ومن ثم فهو كثير الوقوع في الحياة العملية .
ويجوز للشخص أن يؤمن على مسئوليته المترتبة على الخطأ ، سواء كان هذا الخطأ عقدياً أو تقصيرياً ، وسواء كان الخطأ التقصيري مفترضا أو ثابتاً ، وسواء كان الخطأ الثابت يسيراً أو جسيماً ولكن لا يجوز التأمين على المسئولية المترتبة على الخطأ العمد ، إذا لا يجوز لأحد أن ييسر لنفسه السبيل إلى الغش . وإنما يجوز التأمين على المسئولية عن عمل الغير ، حتى لو ارتكب هذا الغير خطأ عمداً ، ذلك أن المسئول عن الغير لم يؤمن من المسئولية عن غشه هو بل عن غش الغير ، فالخطأ الشخصي الذي يؤمن نفسه منه هو خطأ مفترض لا خطأ عمد ( ) .
ونرى من ذلك أن الشخص يستطيع أن يؤمن على مسئوليته في مختلف صورها ، فيما عدا المسئولية عن الخطأ العمد الذي يصدر منه شخصياً .
وننظر الآن فيما يأتي : ( 1 ) علاقة المؤمن ( شركة التأمين ) بالمؤمن له ( المسئول ) ( 2 ) علاقة المؤمن بالمضرور ( 3 ) علاقة المؤمن بمن صدر منه الخطأ في التأمين على المسئولية عن عمل الغير .
656 – علاقة المؤمن بالمؤمن له : هذه العلاقة ينظمها عقد التأمين . وهو يرتب التزامات في ذمة المؤمن ( شركة التأمين ) . وأخرى في ذمة المؤمن له ( المسئول ) .
( 1 ) التزامات المؤمن : أما التزامات المؤمن فتتلخص في ضمان المسئولية التي قد تترتب في ذمة المؤمن له ، وهي المسئولية التي كانت محلا للتامين . والأصل أن المؤمن ضامن لكل ما ينجم عن هذه المسئولية من تكاليف . فمتى طولب المؤمن له مطالبة ودية أو قضائية بتعويض عن ضرر هو مسئول عنه وكان داخلا في دائرة التأمين ، بدا التزام المؤمن ينتج أثره ، سواء دخل المؤمن في الدعوى أو لم يدخل ، ووجب عليه أن يكفل للمؤمن له نتائج هذه المطالبة ولو كانت على غير أساس . فإن الذي يضمنه المؤمن ليس هو مسئولية المؤمن له فحسب . بل كل مطالبة توجه ضده في شأن هذه المسئولية ( ) .
فإذا ثبتت المسئولية قبل المؤمن له ، وجب على المؤمن أن يدفع له ما ثبت في ذمته من تعويض بسبب هذه المسئولية ( ) . والقاعدة أن المؤمن يلتزم بالضمان بقدر ما تحقق من مسئولية المؤمن له دون زيادة ، حتى لو كان عقد التأمين يشتمل على شرط يجعل المؤمن ضامناً لمبلغ معين وكان هذا المبلغ يزيد على التعويض الذي ثبت في ذمة المؤمن له . فلو كان هذا المبلغ ألفا وكانت قيمة التعويض ثمانمائة ، فإن المؤمن يضمن الثمانمائة دون الألف ( ) .
وتعليل ذلك أن عقد التأمين من المسئولية هو عقد تأمين لا عقد ادخار ، فهو معقود لتعويض الخسارة على المؤمن له ، فلا يجوز أن يكون مصدر ربح له ، وهذا بخلاف عقد التأمين على الأشخاص هو عقد ادخار لا عقد تأمين ، فيجوز أن يزيد مبلغ التأمين على مقدار الخسارة .
( 2 ) التزامات المؤمن له : ويلتزم المؤمن له بدفع أقساط التأمين في مواعيدها وبغير ذلك من الالتزامات التي ترتبها وثيقة التأمين .
ويصح الاتفاق في الوثيقة على إعفاء المؤمن من الضمان إذا كان المؤمن له دون رضاء من المؤمن قد دفع إلى المضرور تعويضاً أو اقر له بالمسئولية . ولكن لا يجوز التمسك بهذا الاتفاق إذا كان ما أقر به المؤمن له مقصوراً على واقعة مادية ، أو إذا ثبت أن المؤمن له ما كان يستطيع أن يرفض تعويض المضرور أو أن يقر له بحقه دون أن يرتكب ظلماً بيناً ( ) .
657 – علاقة المؤمن بالمضرور : كان المشروع التمهيدي للقانون المدني الجديد ينص في المادة 832 منه على ما يأتي : " لا يجوز للمؤمن أن يدفع لغير المصاب مبلغ التأمين . المتفق عليه كله أو بعضه ما دام المصاب لم يعوض بما لا يجاوز هذا المبلغ عن الأضرار التي نشأت عنها مسئولية المؤمن له " . فكان هذا النص يجعل للمصاب ( المضرور ) دعوى مباشرة قبل المؤمن ، إذ كان يلزم المؤمن إلا يدفع لغير المضرور مبلغ التأمين ما دام المضرور لم يعوض . ومؤدى هذا النص أن المضرور الذي لم يتقاض التعويض من المسئول ( المؤمن له ) يستطيع أن يتقاضاه مباشرة من المؤمن في حدود مبلغ التأمين ،دون أن يشترك معه دائنوا المؤمن له ، لأنه يرجع على المؤمن بالدعوى المباشرة لا بدعوى المدين .
ولكن هذا النص قد حذف ، وترك الأمر لقانون اخص يصدر فيما بعد . وحتى يصدر هذا القانون معيداً لهذا النص لا يمكن القول بأن للمضرور دعوى مباشرة قبل المؤمن . فلا يرجع على المؤمن إلا بطريق الدعوى غير المباشرة ، وذلك بان يستعمل دعوى مدينه المؤمن له ، وفي هذه الحالة يشاركه دائنو المؤمن له شركة غرماء إذ هو لا يمتاز عنهم ( ) .
658 – علاقة المؤمن بمن صدر منه الخطأ في التأمين على المسئولية عن عمل الغير : يحدث أن المؤمن له لا يكون هو من صدر منه الخطأ ، ولكنه يكون مسئولا عن عمل الغير الذي صدر منه الخطأ ، ويتحقق ذلك في مسئولية المكلف بالرقابة عمن هم في رقابته ومسئولية المتبوع عن التابع . فإذا دفع المسئول عن عمل الغير التعويض للمضرور ، ورجع به على المؤمن ، إلا يجوز لهذا أن يرجع به على الغير الذي صدر منه الخطأ كما كان يرجع المسئول نفسه ؟
سنرى فيما يلي أنه إذا اجتمع للمضرور طريقان للتعويض أحدهما هو طريق التأمين ، جاز له أن يجمع بينهما . فيرجع بالتعويض على الغير الذي ارتكب الخطأ لأن هذا الخطأ هو الذي تحققت به المسئولية ، ويرجع على المؤمن بمبلغ التأمين بمقتضى عقد التأمين الذي دفع أقساطه . فهو يجمع بين الحقين لأن لكل حق مصدراً غير المصدر الذي قام عليه الحق الآخر ، فمصدر الحق في التعويض الخطأ الذي ارتكبه الغير ، ومصدر الحق في مبلغ التأمين العقد الذي أبرمه مع المؤمن .
ولكن يغلب في العمل أن يشترط المؤمن في عقد التأمين أن ينزل المؤمن له عن دعواه قبل من صدر منه الخطأ إلى المؤمن . فيكون هذا بمثابة الحلول الإتفاقي ( ) . فإذا لم يوجد شرط كهذا لم يبق إلا تطبيق القواعد العامة ، وتطبيقها يؤدى إلى أن المؤمن لا يحل محل المؤمن له في الرجوع على الغير الذي صدر منه الخطأ ، لا حلولا اتفاقياً لأن عقد التأمين لم يرد فيه شرط الحلول ، ولا حلولا قانونياً لأن الحلول القانونين لا يكون إلا بنص والنص غير موجود ( ) .
3 – اجتماع طريقين للتعويض
659 – كيف يجتمع طريقان للتعويض : قد يوجد لدى المضرور طريقان يستطيع سلوكهما لتعويض ما أصابه من ضرر . مثل ذلك أن يكون قد امن نفسه في إحدى شركات التأمين مما يصيبه من ضرر في جسمه أو في ماله عن طريق التأمين على الحياة أو التأمين من الحوادث أو التأمين من الحريق أو التأمين من الخسائر أو التأمين من المسئولية . ومثل ذلك أيضاً أن يكون الضرر الذي يصيبه من شأنه أن يرتب له حقاً في نفقة أو إيراد في ذمة الغير .
ونستعرض كلا من الحالتين : حالة اجتماع التعويض مع مبلغ التأمين وحالة اجتماع التعويض مع النفقة أو الإيراد ( ) .
660 – اجتماع التعويض مع مبلغ التأمين : إذا أصيب شخص بضرر في جسمه أو في ماله ، وكان مؤمناً نفسه من هذا الضرر ، فقد رأينا أن التحليل القانونين يؤدي إلى النتيجة الآتية : للمضرور حقان ، حق قبل المسئول عن هذا الضرر في التعويض ومصدر هذا الحق الخطأ الذي ارتكبه المسئول ، وحق قبل شركة التأمين في مبلغ التأمين ومصدر هذا الحق العقد الذي تم بينه وبين الشركة . فإذا كان مؤمناً على حياته أو على ما عسى أن يصيبه من جراء الحوادث . ووقع الضرر الذي امن نفسه منه ، فهو – أو ورثته – يرجع بمبلغ التأمين على الشركة وبالتعويض على من كان مسئولا عن إحراق المنزل أو إغراق البضاعة أو تحقيق المسئولية ، ويجمع بذلك في هذه الحالات أيضاً بين الحقين .
ولا يجوز الاعتراض على هذا التحليل القانونين بان المضرور يكون بذلك قد جمع بين تعويضين عن ضرر واحد ، ذلك أنه لم يتقاض إلا تعويضاً واحداً من المسئول عن الضرر الذي أصابه ، أما مبلغ التأمين فليس مقابلا للتعويض ، بل هو مقابل لأقساط التأمين التي دفعها للشركة ( ) .
كذلك لا يجوز لشركة التأمين أن ترجع على المسئول بتعويض بحجة أن خطأه هو الذي ألزمها بدفع مبلغ التأمين للمضرور ، ذلك أن الذي ألزمها بدفع مبلغ التأمين ليس هو خطأ المسئول بل هو عقد التأمين ( ) .
661 – اجتماع التعويض مع الفقه أو الإيراد : قد يكون الضرر الذي أوجب التعويض للمضرور سبباً في ترتيب حق آخر له . مثل ذلك عامل في مصنع تسبب عامل آخر في إصابته ، فيستحق العامل المضرور قبل رب المصنع مبلغاً يقدره قانون إصابات العمل جزافاً كما رأينا ، ويستحق في الوقت ذاته تعويضاً كاملا قبل العامل المسئول عن الحادث ، فهل له أن يجمع بين التعويضين ؟ مثل آخر شخص اثيب بما اقعده عن العمل ، فاستحق تعويضاً قبل المسئول عن هذه الإصابة ونفقة عند من تجب عليه النفقة له بسبب عجزه عن العمل ، فهل يجمع بين التعويض والنفقة ؟
يختلف الأمر هنا عن حالة اجتماع التعويض مع مبلغ التأمين . فقد قدمنا أن مبلغ التأمين ليس مقابلا للتعويض ، بل هو مقابل لأقساط التأمين التي سبق دفعها . ولكن المبلغ الجزافي الذي يدفعه رب المصنع للعامل عند إصابته ، والنفقة التي يدفعها من تجب عليه النفقة ، لا مقابل لهما إلا عجز المضرور عن العمل بسبب الحادث الذي أصابه ، فالصبغة الغالبة عليهما هي التعويض عن هذا العجز . لذلك لا يجوز أن يجمع المضرور بين تعويضين ، فهو إذا تقاضى التعويض الجزافي أو النفقة . لم يرجع على المسئول إلا بما بقى من الضرر دون تعويض ، ويرجع رب المصنع أو الملزم بالنفقة على المسئول بما التزم بدفعه للمضرور لأن المسئول هو المتسبب في ذلك ( ) . أما إذا رجع المضرور بكل التعويض على المسئول . فلا يجوز له أن يرجع بشيء على صاحب المصنع ( ) أو الملزم بالنفقة .
كذلك لا يستطيع الموظف ، إذا أصيب في حادث تكون الحكومة مسئولة عنه ، أن يجمع بين التعويض الكامل عن هذا الحادث وبين معاش استثنائي يرتبه القانون على سبيل التعويض ، بل يجب إنقاص مبلغ المعاش الاستثنائي . سواء كان في صورة إيراد مدى الحياة أو في صورة مكافأة إجمالية من مبلغ التعويض الكامل المستحق للموظف ( ) لكن إذا قبض الموظف معاشه العادي طبقاً لقانون المعاشات ، فإنه يستطيع الجمع بينه وبين التعويض الكامل ، لأن المعاش العادي كمبلغ التأمين إنما استحق لقاء الاستقطاعات الدورية التي أخذت من مرتب الموظف ( ) .
أما إذا كان المضرور قد تلقى صدقة أو إحساناً من الغير مواساة له فيما أصابه من ضرر ، فلا يجوز للمسئول أن ينقص من مبلغ التعويض الذي يلزمه مقدار هذه الصدقة ، فإن صاحب الصدقة قد تبرع بها للمضرور لا للمسئول .