recent
جديد المشاركات

سابقة قضائية عبء الاثبات القضاء المصري

الحجم


                                        باسم الشعب ..

"وحيث انه عن الدفع بخلو الأوراق من دليل قبل المتهم فإنه لما كان الأصل في الإنسان البراءة فالمتهم بريء حتى تثبت إدانته بحكم نهائي، وتفريعاً على تلك القاعدة يقع عبء إثبات وقوع الجريمة ونسبتها إلى المتهم على النيابة العامة لأن البينة على من ادعى.

والجدير بالذكر والمحكمة في هذا المقام أن تشير إلى أن هذه القاعدة تجد أصلها في كثير من النظم القانونية والقضائية ومقتضاها أن المتهم لا يُكلف بإثبات أن الجريمة لم تقع منه وإنما بنفي ما تقدمه جهة الاتهام ضده من أدلة تثبت وقوعها وإثبات النفي أيسر، ومنها تتفرع قاعدة "الشك يفسر لمصلحة المتهم" لأن الأصل فيه البراءة.

والمبدأ في القانون المصري ان ثبوت الوقائع، أي الحكم بوجود الوقائع المشكلة لأركان الجريمة ونسبتها إلى المتهم، أمر يتوقف على اقتناع القاضي وقد أرست المادة 302 من قانون الإجراءات الجنائية الاعتراف العام بحرية القاضي في تكوين اقتناعه في تقريرها أن "يحكم القاضي في الدعوى بحسب العقيدة التي تكونت لديه بكامل حريته" والمقصود بالاقتناع هنا أن يتوفر لدى القاضي من الادلة الوضعية ما يكفي لتسبيب تسليمه بثبوت الوقائع كما أثبتها في حكمه وبنسبتها إلى المتهم.

ذلك هو مفهوم الاقتناع في العقل وفي القانون، فالاقتناع ليس يقيناً وليس جزماً بالمعنى العلمي لليقين والجزم، إنما الاقتناع هو اعتقاد قائم على أدلة موضوعية أو يقين قائم على تسبيب.

والدليل هو كل إجراء معترف به قانوناً لإقناع القاضي بحقيقة الواقعة، وهو أيضاً الاثر الذي ينم عن وقوع جريمة من جانب شخص معين.

وفي هذا تقرر محكمة النقض أن الأصل في المحاكمات الجنائية هو باقتناع القاضي بناء على الأدلة المطروحة عليه فله أن يكون عقيدته من أي دليل أو قرينة يرتاح إليها، إلا إذا قيده القانون بدليل معين ينص عليه وأن العبرة في المحاكمات الجنائية هي باقتناع القاضي بناء على الادلة المطروحة عليه بإدانة المتهم أو ببراءته ولا يصح مطالبته بالأخذ بدليل دون دليل.

وتطبيقاً لذلك فقد لا يأخذ القاضي باعتراف المتهم على نفسه إذا داخل ضميره الشك في صحته، وقد يأخذ ببعض الشهادة دون البعض الآخر وباعتراف المتهم في "تحقيق البوليس" رغم عدوله عنه أمام النيابة والمحكمة وبقول متهم على آخر متى أطمأن القاضي إلى صحته ولو ورد في محضر الشرطة وإن عدل عنه.

وحرية القاضي الجنائي في الاقتناع تتقيد بأربعة قيود ثلاثة منها لها سند في القانون وواحد في ابتداع محكمة النقض.

فالقاضي مقيد بنص المادة 225 من قانون الاجراءات الجنائية في شأن المسائل غير الجنائية أن ينتهج طرق الإثبات المقررة في القانون الخاص بتلك المسائل.

وهو مقيد بنص المادة 276 من قانون العقوبات بنهج معين في إثبات جريمة الزنا.

كما أنه مقيد بقيد عام عند الإثبات هو أن يكون الحكم مبنياً على أدلة وضعية صحيحة بالمعنى المشار إليه سلفاً عن مفهوم الدليل الجنائي، هذه هي القيود التي لها سند قانوني.

أما عن القيد الذي ابتدعته محكمة النقض المصرية (وتنتهجه أيضاً محكمة النقض الفرنسية) فهو أن يكون اقتناع القاضي يقينياً والمحكمة تراقبه في اقتناعه الموضوعي وعند إثباته للوقائع ونسبتها للمتهم على الرغم من أن القانون ذاته قد أعطاه بحد تعبير نص المادة 302 من قانون الإجراءات الجنائية السابق الإشارة إليها "كامل الحرية" وهو دور في الرقابة رغم أنه ليس له سند من القانون إلا أن غايته محمودة ومضمون هذا القيد هو إخضاع الحكم برمته لتقدير قضاة النقض سواء ما تعلق منه بالقانون أو ما تعلق بالواقع، فإن توافق تقدير قضاة النقض مع قضاة الموضوع أُبرم الحكم أما إذا اختلف بينهما التقدير فإن محكمة النقض تنقض الحكم ولو كانت أسباب نقضه راجعة الى منطقة إقتناع القاضي التي يسلم له القانون بكامل حريته في تكوينه، مبررة ذلك بصياغة حكيمة ومحكمة بأنه مسألة قانون.

إعلان منتصف المقال
وحيث انه لما كان من المقرر في شأن تقدير الصورة الصحيحة لواقعة الدعوى وإنزالاً لما سبق أن لمحكمة الموضوع أن تستخلص من أقوال الشهود وسائر العناصر المطروحة أمامها على بساط البحث الصورة الصحيحة لواقعة الدعوى حسبما يؤدي إليه اقتناعها وأن تطرح ما يخالفها من صور اخرى ما دام استخلاصها سائغاً مستنداً الى أدلة مقبولة في العقل والمنطق ولها أصلها في الاوراق.

وفي شأن تقدير الدليل فإن من المقرر أنه يكفي في المحاكمة الجنائية أن يتشكك القاضي في إسناد التهمة إلى المتهم لكي يقضي بالبراءة، إذ مرجع الأمر في ذلك إلى ما يطمئن إليه في تقدير الدليل ما دام الظاهر من الحكم أنه احاط بالدعوى عن بصر وبصيرة وأحاط بظروفها وأدلة الإثبات التي قام عليها الاتهام ثم أفصح عن عدم اطمئنانه إلى أدلة الثبوت لأسباب سائغة تكفي لحمل النتيجة التي خلص إليها.

وفي شأن تقدير تحريات الشرطة فإنه من المقرر أن التحريات بمفردها لا تصلح أن تكون دليلاً كافياً أو قرينة مستقلة على ثبوت الإتهام وأنها تخضع في ذلك لتقدير محكمة الموضوع.

وحيث أنه لما كان ذلك وبناء عليه وكان الدفاع قد دفع بعد صحة تصوير الواقعة على النحو الذي جاءت عليه أوراقها مستنداً في ذلك إلى أن حقيقة ما حدث قد سجلته كاميرا مثبتة بمحل الواقعة وقد حرر عن هذه الواقعة المحضر الإداري رقم 8867 لسنة 2018 إداري قسم دمنهور والذي طلب ضمه إلى أوراق الدعوى ومطالعة كارت الذاكرة محل هذا المحضر وقد أمرت المحكمة بضمه إلى أوراق الدعوى وفي الجلسة المحددة و بعد أن أعدت المحكمة الوسيلة الفنية اللازمة قامت بمطالعة كارت الذاكرة والذي تبين من مشاهدته نقاط خلاف مع ما حُرر بمحضر الضبط هي كالتالي:

أولاً: اختلاف توقيت القبض على المتهم عن ما تم تحريره بمحضر الضبط إذ الثابت أن المتهم تم القبض عليه أمام معرض السيارات الخاص به في الساعة السابعة وثلاث عشرة دقيقة بينما الثابت بمحضر الضبط أن المتهم تم القبض عليه في الساعة السادسة وخمس وأربعون دقيقة تقريباً.

ثانياً: الثابت أن الذي قام بالقبض على المتهم هو أحد معاوني الضبط حيث انقض عليه مقيداً وثاقه بصورة كاملة بينما الثابت بمحضر الضبط أن الذي قام بالقبض على المتهم هو شاهد الإثبات الأول.

ثالثاً: الثابت أن المتهم قدم إلى معرض السيارات المذكور دون أن يكون حاملاً كيس بلاستيك كما جاء به محضر الضبط وأنه قام بفتح المعرض وبعد تقريباً دقيقة خرج منه وهو يحمل زجاجة مياه اعطاها إلى طفلة كانت متواجدة أمام المعرض فتم القبض عليه بعد ذلك مباشرة وهو أمر يتفق وما جاءت به اقواله عند استجوابه بتحقيقات النيابة العامة ودون أن يعلم أن الواقعة قد سجلتها كاميرا على نحوها الصحيح وهو أمر أيضاً يختلف تماماً مع ما دُون بمحضر الضبط، فلا كان المتهم حاملاً كيس بلاستيك بداخله مواد مخدرة ولا كان على موعد مع احد عملائه للترويج.

رابعاً: الثابت هو دخول قوة الشرطة إلى المعرض الخاص بالمتهم ثم المكوث بداخله تقريباً حتى الساعة السابعة وخمس وأربعون دقيقة ثم خروج بعض معاوني الضبط حاملين بعض الاشياء تم وضعها في الحقيبة الخلفية لإحدى السيارات الخاصة التي استخدمتها القوة المرافقة في الضبط وهو ما لم يدون بمحضر الضبط مطلقاً حيث جاء هذا الأخير خلواً مما يفيد تفتيش معرض السيارات الخاص بالمتهم كما أن أمر النيابة العامة بالتفتيش لم يتضمن الإذن لمأمور الضبط القضائي المختص بتفتيش هذا المعرض الأمر الذي يُوصم الواقعة برمتها بعدم الصحة، بل والاختلاق الذي ترفضه المحكمة ومن قبل تأنف منه العدالة.

وإذا كان المبدأ القانوني الراسخ يملي أنه يكفي لسلامة اقتناع القاضي ببراءة المتهم التشكيك في صحة إسناد التهمة للمتهم دون أن يكون ملزماً بالرد على كل دليل من أدلة الثبوت ما دام قد داخله الريب والشك في عناصر الاثبات على أساس أن إغفال التحدث عن تلك الأدلة يفيد ضمناً أنه قد أطرح هذه الأدلة.

نقول أنه إذا كان هذا هو الأثر المترتب على تشكك المحكمة في صحة إسناد التهمة، فما بالنا وقد أهدرت المحكمة الدليل المقدم بالأوراق برمته وتجاوز شكها في صحة الواقعة إلى الريبة ثم بلغت الذروة عندما وصمتها بالاختلاق وهو الأمر الذي يحملها وأخذاً بما سبق على القضاء ببراءة المتهم مما نُسب إليه.

والمحكمة إذا تذهب بقضائها إلى الحد الذي ورد بمنطوقه تشدد على أنه إذا كانت العدالة تتأذى حتماً إذا ما أهدرت الإجراءات التي اشترطها القانون وباعتبار الإجراء الصحيح يمثل أحد أركان المشروعية بمعناها الأعم فإن إختلاق الجريمة من الأساس من شأنه أن يُهدر العدالة ويدميها لكن ذلك لن يتأتى أبداً وطالما أن العدل أقوى حتى ولو بدأ في لحظة أنه الأوهن وأن الحقيقة كالشمس بها وهج حتى ولو بدت في لحظة أن ضوءها هو الأخفت.

إن ما طالعته المحكمة بكارت الذاكرة لا يحمل فقط براءة المتهم مما نُسب إليه وإنما يمثل أيضاً عدواناً صارخاً على الحقيقة ما كان يجب وتحت أي ظرف أن تلجأ إليه يد رجل الضبط وهي اليد الحريصة دوماً على حماية الأفراد وطمأنتهم لا ترويعهم والزج بهم إلى آتون اتهام ليس له نصيب من الحق والعدل وهو الأمر الذي لم يكن للمحكمة أن تغض الطرف عنه من دون أن تقف وقفة محذرة من العبث بإجراءات اشترطها القانون ومن قبل ضرورة وجود دليل قطعي على الجرم قبل المتهم وهو ما لم يتحقق فلا جُرم قد ثبت بيقين ولا إجراء قد تحققت شرائط صحته فكأن الأوراق قد باتت أمام المحكمة مثل نبت لم تخرجه بذرة صالحة أو مثل مسخ لا تُعرف ملامحه وهو الأمر الذي حمل المحكمة بعد أن قضت ببراءة المتهم مما نسب إليه من اتهام أن تحيل الأوراق الى النيابة العامة لكي تتخذ شؤونها فيما سُطر بمحضر الضبط والذي خالفته تماماً مقاطع الفيديو التي سجلت واقعة القبض على المتهم والذي ثبت منها أن للواقعة صورة أخرى مغيرة تماماً لما دُون بمحضر الضبط.

إن الأمر لا يتعلق فقط ببراءة إنسان قضى بضعة أشهر محبوساً احتياطياً على ذمة جرم هو منه براء (وهو أمر يستحق بلا شك أن تقف المحكمة عنده) إلا أنه يتخطاه إلى أبعد من ذلك بكثير فالقانون بشقيه الموضوعي والإجرائي هو السياج الذي يحمي هذا المجتمع وأن في إهداره إهداراً لأمن هذا المجتمع الذي لا يتحقق إلا عندما يأمن الفرد على نفسه من كل ما يمكن أن يمثل إعتداءً على حقوقه الشخصية ومن أخصها الحق في حياة كريمة يرسم معالمها القانون ويحقق دعائمها قضاء عادل ومن قبل هذا وذاك رجال ضبط أوفياء يبذلون الغالي والنفيث حتى أرواحهم لا يترددون لحظة في تقديمها حماية لهذا الوطن ولهذا الانسان الذي هو عماد الوطن.

إن المحكمة بقضائها هذا إنما تقيم عدلاً لا سبيل إلى رفعة إلا بانتهاج سبله وتقيم حداً بين الزبد الذي يذهب جُفاء وبين ما ينفع الناس فيبقى في الأرض".
google-playkhamsatmostaqltradent